"الزمن المختوم" ـ قراءة ألمانية استفزازية للمحنة العربية
٧ أبريل ٢٠٠٧يفتتح المؤرخ الألماني دان دينر كتابه "الزمن المختوم: حول جمود العالم الإسلامي" بسؤال طرحه شكيب ارسلان قبل خمسة وسبعين عاما: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ سؤال كما يرى دان دينر لم يفقد شيئا من جديته ومضمونه، بل ازدادت أهميته بالنظر إلى الوضع المتردي الذي تعيشه المجتمعات العربية، خصوصا إذا ما قارناه بالوضع السائد في أوروبا أو حتى في دول لا تنتمي إلى الثقافة الغربية مثل الهند الواعدة أو الصين القادمة.
يتكون كتاب دان دينر من عدة فصول، لعل أهمها على الإطلاق الفصل الذي يعالج دور اللغة العربية كعائق أمام التحاق العرب بركب الحضارة المعاصرة، إضافة إلى الفصل الذي يتطرق فيه إلى الرؤية الدينية الشاملة للزمن ولعجلة التاريخ.
الواقع العربي ـ الأسئلة المحظورة والأجوبة المرجأة
لعل أهم ما في هذا الكتاب هو أسئلته. أسئلة محرجة لا غرو. قد نلخصها كلها في السؤال الذي اختار دان دينر أن يقدم به كتابه:لماذا تأخر المسلمون؟ وإذا كان جيل النهضة العربي من أمثال رفاعة الطهطاوي أو فارس الشدياق أو عبده أو شكيب ارسلان وسلامة موسى والكواكبي قد أرجعوا عوامل ذلك التخلف إلى أسباب موضوعية، منها ضعف الاهتمام بالعلوم وانتشار طبائع الاستعباد وحرمان المرأة من حرياتها، فإن المرحلة الراهنة تزخر بأجوبة هي أقرب إلى نظرية المؤامرة منها إلى الاجتهادات العلمية التي ميزت عصر النهضة. ومن ذلك القول أن الاستعمار هو السبب الرئيسي وراء التخلف الذي يعيشه العالم العربي. فدان دينر يرد على مثل هذه المزاعم بالسؤال: "لو كان العالم العربي متقدما، أكان سيكون بامكان الغرب استعماره؟ ألا يعود الاستعمار أيضا إلى تخلف العرب؟".
يبدأ دان دينر فصله الأول بإلقاء نظرة على نتائج التقرير الأممي حول التنمية في العالم العربي، الذي شاركت في إعداده نخبة من المثقفين العرب والصادر سنة 2004. هذا التقرير الأممي يسلط الضوء على الجمود الذي يشهده العالم العربي في كل القطاعات، سواء الاقتصادية منها أو ما يتعلق بالحد من الحريات العامة والتعليم وضعف الاستثمار في البحث العلمي أو وضعية المرأة. كما أنه تقرير يرى بوضوح أن أسباب تخلف العربي داخلية وعضوية بالأساس. ففي بلد مثل مصر مثلا، الذي تصل نسبة سكانه إلى سبعين مليونا، لا تتم ترجمة أكثر من أربعمائة كتاب سنويا، في حين تترجم إسرائيل، التي يبلغ عدد سكانها ستة ملايين عشرة مرات ما تترجمه مصر.
أزمة الضاد ـ لغة خارجة عن العصر
يرى دينر بأن أحد أهم أسباب الجمود الذي يعيشه العالم العربي يعود إلى رؤية العرب للغتهم وتأخرهم في الدخول إلى زمن الطباعة، تأخر ساهم لا غرو في تأخير نشر المعارف الجديدة. دينر يعيد ذلك إلى سيطرة كل ما هو مقدس على الدنيوي، فاللغة العربية لغة مقدسة لأنها لغة دينية، وإدخال تغييرات عليها من شأنه أن يخل بقدسيتها. إنه الصدام إذن بين لغة النص القدسية والمختومة والنهائية ولغة العصر الديناميكية، والمنفتحة والمتغيرة باستمرار. إن الحضور الطاغي للمقدس في نظر دينر يحول دون إدخال إصلاحات جذرية على اللغة العربية، وإلى نوع من الانفصام اللغوي (الشيزوفرينيا اللغوية)، فلغات الواقع تختلف وتتناقض من حيث عفويتها مع لغة النص المقدسة والنافرة من كل تغيير. كما أن قداسة العربية أو دينيتها وقفت ولا تزال تقف أمام نشر أوسع للمعارف. فاكتشاف الطباعة سيقود في أوروبا إلى انتشار أوسع لأفكار الإصلاح الديني وإنجازات حقبة التنوير، في وقت ظل فيه العالم العربي يأخذ برأي ابن حنبل، الذي رأى أن القرآن والحديث وحدهما من يستحقان الكتابة وما عدا ذلك لن يتسبب إلا بنشر البدع والضلالات.
وفضلا عن ذلك يشير دان دينر إلى انتشار ثقافة السماع والذاكرة في العالم العربي، وما يمثله ذلك من عائق أمام انتشار للكتابة وللمعارف العلمية. إنه الصراع إذن بين الذاكرة والتاريخ، وهو صراع سيقود دان دينر إلى طرح سؤال الزمن في المجال الثقافي الإسلامي.
النظرة الإسلامية إلى الزمن: "زمن خارج الزمن"
في الفصل الأخير من كتابه، يعرج دان دينر على مشكلة الزمن والرؤية إلى التاريخ في العالم العربي. وشأنه شأن اللغة فإن الزمن في النظرة الدينية الشمولية زمن مختوم ومغلق ومنته. في قراءته للقرآن، أشار جاك بيرك إلى الزمن الديني، كزمن ممتد فوق الزمن، لا علاقة له بحياة الناس، بل هو زمن منته منذ الأبد، إنه زمن يبدأ بالخلق وينتهي بالآخرة. وهي نفس الفكرة التي عبر عنها المفكر الألماني شبنجلر الذي، وصف الحضارة الإسلامية بأنها "حضارة الكهف"، لأنها حضارة الحنين إلى عصر ذهبي، في مقابل حضارة السهم الأوروبية، المنطلقة دائما نحو اكتشاف آفاق جديدة، والتي تحررت من ربقة النص لتعتنق خطى التاريخ. يظهر ذلك بوضوح في التعامل مع الشريعة الإسلامية. فالشريعة في النظرة الدينية تقف فوق التاريخ، وكل خروج عنها، هو خروج من الدين وخيانة للهوية. وفي هذا السياق يرى دينر أن الثقافة الغربية اجترحت مفهوما جديدا للتاريخ في القرن الثامن عشر، مفهوما متجذرا في أفكار الإصلاح الديني والتنوير، القائمة على مبدأ التقدم المستمر. لم يعد التاريخ، وفقا لرؤية دان دينر، مخلوقا إلهيا، يمضي وفق رسم إلهي، بل إن التاريخ وفق النظرة التنويرية وارى كل الآلهة الثرى، وسيكتسي من الآن فصاعدا لبوس الإنسان.
رشيد بوطيب