كيف تتلاعب روسيا بالرأي العام الأفريقي؟
٢ فبراير ٢٠٢٥
ترتفع خلف رصيف اليخوت الفاخرة البيضاء ناطحات سحاب زجاجية تلمع في ضوء ذهبي اللون. وهذه الصورة المنشورة على الفيسبوك يُفترض أنَّها تعرض جمال موسكو. ولكن في هذه الصورة معلومة واحدة خاطئة فقط - ويمكن التحقق منها بسهولة من خلال البحث العكسي عن الصور: فهذه الصورة لم تُلتقط في العاصمة الروسية موسكو، بل في دبي.
أما الحساب الذي نشر هذه الصورة المزعومة لموسكو فيتم تشغيله من دولة بوراندي في شرق أفريقيا - كما يظهر على الأقل من بياناته مثل رقم الهاتف المسجل به. وهذا الحساب يسمي نفسه باسم "فلاديمير بوتين"، ويعرض صورة الرئيس الروسي في صورة ملفه الشخصي، وينشر بانتظام محتوايات مؤيدة لروسيا؛ من بينها دائمًا أكاذيب واضحة - تدّعي مثلًا أنَّ مدفع ليزر روسي قد دمَّر 750 طائرة مقاتلة أمريكية. وهذا الحساب يدَّعي أنَّه موقع إخباري ويتابعه أكثر من 180 ألف شخص.
بيد أنَّ منشوراته الساعية إلى التأثير سياسيًا على جمهوره، لا تعتبر كلها فظة وخاطئة بهذا الشكل. فمعظمها دقيقة أكثر - وتكثر فيها الأدلة على أنَّ روسيا تريد أن تكوِّن لنفسها صورة إيجابية في الدول الأفريقية المهمة استراتيجيًا.
التأثير غالبًا ما يحدث من دون الكذب
وفي الحالات الفردية، لا يمكن دائمًا تحديد المسؤول عن مثل هذه المنشورات. ولكن على العموم: ذكر مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية - وهو معهد أبحاث تابع للجيش الأميركي - في تقريره الصادر في آذار/مارس 2024 أنَّ روسيا هي المسؤول الرئيسي عن حملات التأثير في أفريقيا. تمكن المركز من اكتشاف أنَّ 80 من بين نحو 200 حملة يمكن ربطها بالسلطات الروسية - وهذا أكثر بكثير من حملات تأثير الدول الأجنبية الأخرى مثل الصين والإمارات العربية المتحدة والسعودية وقطر. وكتب المركز أنَّه منذ المسح السابق الذي أجراه قبل عامين قام بتوثيق زيادة في المعلومات المضللة تبلغ أربعة أضعاف.
والمهم هنا أنَّ هذه الحملات نادرًا ما تعتمد على عمليات تزييف فظة مثل مرفأ اليخوت المزعوم في موسكو. بل تعمل على تحريف عناصر حقيقية من خلال المبالغة أو حذف معلومات عن عمد. ومع ذلك يكفي أحيانًا استغلال وتعزيز الرأي العام القائل: "يوجد في أفريقيا مقارنة طبيعية بين الشرق والغرب، الذي يعتبر فيها تاريخيًا هو الشرير"، كما يقول ألدو كورنليسين، المؤسس المشارك في شركة الاستشارات الرقمية "Murmur Intelligence" في جنوب أفريقيا: "فلا حاجة للكذب أو لمعلومات مضللة من أجل تذكير الناس بذلك".
مؤثرون محليون كبديل!
ويتولى ألدو كورنليسين في شركته تقييم الشبكات الاجتماعية بتكليف من عملاء سياسيين وتجاريين - مثلًا من أجل دراسات تجريها مراكز الأبحاث. وعمله هذا يتعلق بالحملات الروسية أيضًا. وهو يشرح عملهم كما يلي: "توجد شبكة عالمية من الحسابات الرئيسية المتشابكة مع حسابات رئيسية أخرى ضمن السياق الأفريقي. ومن هناك، يأخذ أخيرًا المؤثرون المحليون في كل بلد الرسائل ويقومون بتكييف السرد ليتناسب مع السياق المحلي".
وهذا ما أكدته أيضًا بيفرلي أوتشينغ، الباحثة في برنامج أفريقيا التابع للمركز الأميركي للدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) ومقره داكار. وحول ذلك قالت بيفرلي أوتشينغ لـDW: "عندما تنشر، على سبيل المثال، مجموعة حقوق مدنية في مالي منشورًا بلغة البامبارا، فلن يبدو كأنَّه جاء من موظف حكومي روسي. بل يبدو كأنَّه رأي حقيقي من شخص يتحدث اللغة المحلية ويعرف حساسيات الناس هناك".
وبخلاف المنشورات الصادرة من مصانع التأثير البعيدة، فإنَّ الكثير من المحتوات الآن بات مصدرها بالتالي من أشخاص في المنطقة يعرفون خصوصياتها اللغوية والثقافية. محلل البيانات ألدو كورنليسين يصفهم بأنَّهم "مؤثرون نانويون" - وقد وثَّق نشاطاتهم في جنوب أفريقيا. "جميعهم مأجورون. وعندما يُدفع لكل شخص من بين ألف شخص مبلغ 200 راند (نحو 10 يورو)، فإنَّ هذه حملة بتكلفة قليلة جدًا من أجل تثبيت رواية ما خلال يوم واحد"، كما قال ألدو كورنليسين لـDW. ومع الوقت، يتبنى بعضهم هذه الروايات باعتبارها آراءهم الخاصة وينشرونها من دون أجر.
وكذلك تزيد قوة التأثير ووتكبر صفحات المؤثرين . وهي حسابات يتحكم فيها بشر أو روبوتات. لقد قامت المنظمة غير الحكومية "مركز التحليلات والتغيير السلوكي" بتوثيق شبكة كهذه ترتبط بالحساب الرسمي للسفارة الروسية في جنوب أفريقيا. ومن بين الحسابات الرئيسية الأخرى حساب الناشط الأمريكي جاكسون هينكل المقرب من روسيا وترامب وكذلك حسابات لمجموعة من الناشطين في جنوب أفريقيا يطلقون على أنفسهم اسم "وسائل الإعلام البديلة".
إمبراطورية إعلامية واسعة الانتشار
لا تعتمد روسيا فقط على تطوير الهياكل المتخفية في الشبكات الاجتماعية، بل تعتمد كذلك على قنواتها الخاصة المباشرة. فمن بين الأسرار المعروفة في جمهورية أفريقيا الوسطى، التي تعتبر مختبرًا لنفوذ روسيا في أفريقيا، أنَّ محطة راديو "لينغو سونغو" قد أسسها في عام 2018 عملاء روس.
وفي هذا الصدد نشرت في تشرين الثاني/نوفمبر 2024 العديد من وسائل الإعلام الأوروبية قصة استقصائية حول أحد المبلغين عن خروقات من جمهورية أفريقيا الوسطى؛ وبعد هروبه شرح كيف كان يعمل: فقد كان يوصل المحطة بخبراء مؤيدين لروسيا، ويكتب مقالات صحفية كان يحدد محتويات بعضها بالتفصيل من قبل الوسطاء الروس.
وكذلك تُستخدم قناة آر تي (RT) الروسية الرسمية من أجل نشر السرديات المؤيدة لروسيا. وهذه القناة محظورة في العديد من الدول الغربية، وأيضًا في ألمانيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي. أعلنت قناة آر تي في عام 2022 أنَّها ستنشئ مركزًا إعلاميًا باللغة الإنكليزية في جنوب إفريقيا. وذكرت آر تي أنَّ هذا الموقع بدأ يعمل، وذلك بحسب تقرير لإذاعة صوت أميركا الأميركية. وقناة آر تي يمكن استقبالها بالأقمار الصناعية في "العديد" من الدول الأفريقية.
تبث قناة آر تي الناطقة باللغة الفرنسية في دول أفريقيا الفرانكوفونية. ويظهر بانتظام على القناة صحفيون بارزون من وسائل إعلام مالية مثل راديو "Emergence" أو راديو "L'Elite" كخبراء يشيدون بإجراءات روسيا في منطقة الساحل، وحتى أنَّ بعضهم مرتبطون بالمجلس العسكري المالي.
وبالإضافة إلى ذلك فقد اتهمت وزارة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس السابق جو بايدن قناة آر تي بتشغيل جهات سرية مثل "أفريكان ستريم". وكذلك تم تأسيس قنوات أخرى لاستخدامها بشكل خاص في أفريقيا: وقد يكون أشهرها هو موقع "المبادرة الأفريقية" (African Initiative) الإخباري على الإنترنت، والذي يعود أصله إلى إمبراطورية شركات يفغيني بريغوجين، مؤسس مجموعة فاغنر العسكرية الخاصة، الذي قد أراد مواجهة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حزيران/يونيو 2023، وقُتل بعد بضعة أسابيع في حادث تحطم طائرة، بحسب السلطات الروسية.
وهذه "المبادرة الأفريقية" تعتبر نفسها وكالة أنباء و"جسرًا" يمتد بين روسيا وأفريقيا. وهي تدير أيضًا حسابات - بعضها بشكل علني وبعضها بشكل سري - على موقع تيليغرام والشبكات الاجتماعية. ولها في مالي اتصالات بمعهد الصحافة المحلي، وفي كانون الأول/ديسمبر الماضي اختارت أفضل ثلاثة طلاب متخرجين من هذا المعهد ووظفتهم لديها مباشرة كمراسلين.
حتى ألعاب الكمبيوتر!
"المبادرة الأفريقية" حاضرة أيضًا بمكاتبها الخاصة في بوركينا فاسو، اذ تقوم أحيانًا بتنظيم فعاليات هناك. لقد أقامت في أيار/مايو 2024 معرضًا في العاصمة واغادوغو لصور من "النصر الروسي على ألمانيا الهتلرية" في عام 1945 وحتى "عشر سنوات من حرب الدونباس"، التي تطالب بها روسيا من أوكرانيا.
وبحسب مصدر محلي فإنَّ أهالي بوركينا فاسو "يتقبلون بشكل خاص قصص الانتصارات العسكرية على الإرهابيين. ويمكن بسهولة اعتبار مقطع فيديو يعرض تجهيزات مقدَّمة من روسيا أو جنودًا مجهزين بها كدليل على فعالية التعاون مع روسيا".
والقوة القتالية الروسية تمثِّل موضوعًا ينتشر أيضًا في الثقافة الشعبية: فعلى سبيل المثال، بطل فيلم الأكشن الروسي "السائح" من عام 2021 يعد جنديًا روسيًا من قوات النخبة في جمهورية إفريقيا الوسطى. وفي لعبة الفيديو "الفجر الأفريقي" المعروضة من قبل "المبادرة الأفريقية"، بإمكان الاعبين الاختيار بين تولي دور جيوش الساحل ومساعديها الروس - أو دور "الاتحاد الأفريقي والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا" (ECOWAS) المدعوم من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.
رسالة خفية: روسيا هي الشريك الأفضل
وهذه "التسلية العسكرية" تهدف إلى دعم الرسالة الرئيسية المنشورة بشكل أو بآخر عبر جميع قنوات التواصل، والتي تفيد بأنَّ: زمن الغرب الاستعماري قد انتهى وأصبحت روسيا الشريك الأفضل.
وتوجد مناسبات منتظمة لمثل هذه المنشورات: فعندما اشتكى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 6 كانون الثاني/يناير من أنَّ الحكومات الأفريقية قد نسيت أن تقول "شكرًا"، كان الغضب كبيرًا. وبدورها تناولت "المبادرة الأفريقية" هذه التعليقات - وربطتها بتصريحات خبير في العلوم السياسة من سانت بطرسبرغ، استنتج من ذلك أنَّ هناك "حاجة إلى ظهور لاعبين بديلين" مثل روسيا، التي تعامل الدول الأفريقية بقد أكبر من الاحترام.
ما من شك في وجود روابط لذلك في تاريخ القرن العشرين: "لا يمكن إنكار حقيقة أنَّ روسيا دعمت الحكومات الناشئة في أفريقيا"، كما تقول الباحثة بيفرلي أوتشينغ من المركز الأميركي للدراسات الاستراتيجية والدولية. فالاتحاد السوفييتي دعم حركات التحرير الأفريقية مثل المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا والحركة الشعبية لتحرير أنغولا وكذلك الحكومات الشابة، مثلًا في إثيوبيا والصومال وما يعرف الآن باسم جمهورية الكونغو الديمقراطية.
"لكن يتم هنا الرفع من قدر روسيا عاطفيًا ووصفها بأنَّها ظلت صديقة بعد أن كانت منذ البداية تقف إلى جانبهم. صحيح أنَّ هذه ليست أكاذيب صريحة، ولكن توجدة مبالغة في القصة من أجل زيادة الغضب ضد فرنسا والغرب"، كما قالت بيفرلي أوتشينغ في حوار مع DW. ويبدو أن هذه البذرة بدأت تنمو تدريجيًا في العديد من البلدان الأفريقية.
أعده للعربية: رائد الباش