قصة وفاة "خيرية" المأساوية تكشف هول الفساد في تونس
٩ ديسمبر ٢٠١٦يحتاج علي الرحيلي إلى صبر أيوب ليكبح معاناته اليومية منذ وفاة زوجته الحامل أثناء الولادة تاركة وراءها ابنها هادي رضيعا وإبنتها زينة في سن ثلاثة أعوام.
بجانب كفاحه اليومي وهو يقوم بدور الأب والأم الراحلة، يتطلع علي بعد أشهر من الفاجعة إلى عدالة القضاء بعد اكتشاف شبهات قوية تفيد بحقن زوجته ببَنج(تخدير طبي)"فاكايين" فاسد قبل اجراء عملية قيصرية نتجت عنه مضاعفات خطيرة أدت إلى الوفاة بشهادة أطباء مستقلين.
ويروي علي الذي ينحدر من منطقة قبلي بجنوب تونس، لـ DW عربية قائلا: "رافقت زوجتي إلى مستشفى توزر(جنوب تونس). بمجرد حقنها هناك بمادة 'فاكيين' دخلت في حالة هستيريا وصرع ثم أغمي عليها وتم نقلها بعد ذلك إلى مستشفى توزر القريب". ويضيف علي "في مستشفى توزر دخلت زوجتي في حالة غيبوبة وظلت تحت العناية المركزة لمدة خمسة أيام ثم فارقت الحياة. ابنتي لم تفهم بعد ما حصل لأمها حتى اليوم وهي لا تكف عن ترديد اسمها وتنام بصعوبة في الليل".
فضيحة البَنج الفاسد
ترددت قصة قصة وفاة خيرية عمارة المسترابة وفضيحة البنج الفاسد بشكل واسع بين وسائل الإعلام المحلية. وبجانب حالة السخط العام التي أثارتها فإنها دقت في نفس الوقت ناقوس الخطر مع تحول الفساد إلى خط الواجهة المباشر كخطر يهدد حياة المواطنين في أي لحظة.
بحسب وزارة الصحة فإن حالة الوفاة هي من بين أربع حالات تم رصدها بعد استخدام البنج المذكور بالإضافة إلى 18 حالة صرع أخرى تعد غير عادية فيما يتعلق بأعراض البنج العادية.
وذكرت المحامية منجية المناعي، كانت تطوعت لنيابة عائلة الضحية، لـDW عربية إنهم تقدموا بعد وفاة الزوجة في آب/اغسطس الماضي بطلب الحصول على نسخة من تقرير الطب الشرعي حول أسباب الوفاة لكنهم لم يحصلوا على ذلك حتى اليوم.
في الأثناء تأمل عائلة الضحية أن يقول القضاء كلمته في أسرع وقت بعد أن تقدموا بقضية جزائية تتهم المستشفى بالإهمال والتقصير الناتج عنه الوفاة كما أودعوا قضية لدى المحكمة الإدارية تتهم فيه وزارة الصحة بإخلالها بالمسؤولية المدنية في حماية أرواح المواطنين.
ويعتقد أمين عام حزب الاتحاد الشعبي الجمهوري محمد المرايحي وهو طبيب، أن الوزارة ورغم التحذيرات المسبقة فإنها تعنتت ولم تسحب مادة "الفاكيين" رغم الشبهات الي كانت تحوم حولها إلى أن حصدت أرواح ضحايا.
الدولة تفقد السيطرة على الفساد
وقضية البنج الفاسد لم يكن الملف الوحيد الذي ظهر على السطح فقد تلقى القطاع الصحي ضربة أقوى مع كشف فضيحة استخدام لوالب قلبية (دعامات لتحسين تدفق الدم) منتهية الصلوحية في قضية فساد تورطت فيها العشرات من المصحات الخاصة وشملت أكثر من مائة من المرضى المتضررين دون أن يتم رصد حالة وفاة من مصادر رسمية، بينما لا يزال القضاء يحقق في ملابسات صفقة اللوالب.
والواضح في تونس اليوم أن أزمة القطاع الصحي أعمق من ذلك فمع تراجع الخدمات وتهاوي البنية التحتية فإن السلطة المركزية تبدو وكأنها فقدت سيطرتها على صد الفساد الذي استشرى في أغلب القطاعات الاجتماعية الأخرى مع اتجاه الدولة إلى التركيز على أولويات ترتبط بإنعاش الاقتصاد المنهار ومكافحة الإرهاب.
ومع أن الحكومات المتعاقبة منذ بدء الانتقال الديمقراطي بعد ثورة 2011 تردد بأنها تضع معضلة مكافحة الفساد في صدارة أولوياتها، إلا أن ترتيب منظمة الشفافية الدولية المرتبط بمؤشر مدركات الفساد صنف تونس على مدار السنوات الثلاثة الماضية في مراكز متأخرة (76 في 2015 و79 في 2014 و77 في 2013)، وهو ما يعكس افتقاد السلطة لبوصلة واضحة في مكافحة هذه الظاهرة وعدم احراز أي تقدم يذكر، برأي خبراء.
وتتضح صعوبة الحرب الطويلة والمعقدة ضد الفساد في تونس مع اقرار الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (حكومية) بتورط رجالات في سدة الحكم في دواليب الفساد دون أن يكون للقضاء رد فعل واضح لكشف هذه الملفات.
ويشير شوقي الطبيب رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في حديثه مع DW عربية إلى أن المطلب الأول لتفعيل الحرب ضد "غول الفساد" هو احكام التنسيق بين مؤسسات الدولة وهياكلها التي تشكو من البيروقراطية والهيئات المتخصصة والمجتمع المدني. ويوضح الطبيب "هناك لجان أحدثها القانون اتضح انها لا تجتمع. نحتاج الى تشريعات جديدة لأن النصوص في المادة الجزائية ضعيفة ولا تكفي لردع المخالفين".
ويأتي المثال الأبرز لذلك أن تحقيقات صحفية استقصائية مكنت بعد الثورة من رفع النقاب عن أحد أخطر مظاهر الفساد وهو المرتبط بالأمن الغذائي، عبر الكشف المتكرر لمخازن السلع واللحوم والمواد الغذائية الفاسدة والمسرطنة والتي يتم تداولها على نطاق واسع في الأسواق غير المراقبة.
الفساد أقوى من القانون
لكن ثبت لاحقا أن الفساد كان أقوى من القانون والتشريعات الحالية في تونس. إذ أن الكثير من قرارات الغلق والغرامات المالية لم تكن كافية لردع المتورطين الذين سرعان ما استعادوا نشاطهم بطرق ملتوية وعمليات تحايل على القانون.
ويوضح مهاب قروي المدير التنفيذي لمنظمة "أنا يقظ" الناشطة في مجال مكافحة الفساد في حديثه مع DW عربية أن تراجع دور مؤسسات الدولة في الفترة التي أعقبت الثورة، وتداول أكثر من حكومة على السلطة خلال فترة زمنية قصيرة، عزز ثقافة الإفلات من العقاب. لكن الناشط التونسي يشدد في نفس الوقت على أن السلطة "تفتقد إلى الجرأة والإرادة السياسية الحقيقية لمجابهة الحيتان الكبيرة المورطة في الفساد".
وبالنسبة لمهاب فإن أكثر الصعوبات التي تعترض عمليات تعقب ومكافحة الفساد ترتبط بصعوبة النفاذ إلى المعلومة والوثائق الإدارية بجانب تواضع معرفة العاملين، بسبب نقص التكوين، بالقوانين وتقاعس السلطة التنفيذية في انفاذها.
لكن في كل الاحوال يشاطر مهاب الرأي القائل بأن تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس تبقى متفردة وناجحة في منطقة عربية متفجرة ومتحركة لكنها تجربة تظل على المحك في حال لم يتبعها التزام بتنفيذ باقي الاستحقاقات ومن بينها أولا إعلاء سلطة القانون.
وأفاد شوقي الطبيب رئيس هيئة مكافحة الفساد لـDW عربية بان الهيئة ستمضي في نهج استراتيجية جديدة لمكافحة الفساد مع الحكومة والبرلمان والسلطة القضائية وعددا من مكونات المجتمع المدني، وسيتتم الإعلان عن تفاصيلها بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد. وأضاف الطبيب بأن "هذه الاستراتيجية ستمنح دفعة لجهود مكافحة الفساد ويتوقع أن تمكن من الحد من منسوب هذه الظاهرة بصفة ملحوظة".
طارق القيزاني - تونس