فؤاد رفقة - الشاعر الذي وجد "مزاجه" الشعري عند ريلكه وهولدرلين
١٦ مايو ٢٠١١في ديوانه الأخير "محدلة الموت وهموم لا تنتهي" (2011) يبدو رفقة "كمن يؤلف جنازاً لنفسه"، على حد تعبير الشاعر حسين بن حمزة. رفقة - الذي أطلق على لقائه بالفكر الألماني "زلزالاً" هز كيانه- عاش طيلة حياته مخلصاً لقصيدته الخافتة وترجماته عن الشعر الألماني. كان لقاؤه بهذا الشعر صدفة، وتحديداً مع "مراثي دوينو" للشاعر النمسوي راينر ماريا ريلكه. عندما طالع رفقه هذه القصائد بالانكليزية قرر أن يدرس الألمانية لكي يترجمها عن لغتها الأصلية مباشرة.
وهكذا بدأت رحلة طويلة مع الشعر الألماني، ترجم خلالها قصائد لريلكه وتراكل وهولدرلين ونوفالس وكثيرين آخرين. بمنحة دراسية جاء إلى ألمانيا حيث درس الفلسفة وكتب أطروحة عن مفهوم الجمال لدى هايديغر. في ألمانيا أحس الشاعر، وكما قال رفقة في حوار سابق مع دويتشه فيله، أنه كان ضائعاً في صحراء دون نجوم، ثم بدأ يتلمس طريقه، معتبراً المرحلة الألمانية نقطة تحول كبير في حياته الإبداعية. ونتيجةً لما أسماه رفقة "مغامرة شعرية وفكرية" حصل أستاذ الفلسفة على عدة جوائز ألمانية، كانت أخيرتها ميدالية غوته المرموقة في العام الماضي، وهي ميدالية اعتبرها شاعر "أنهار برية" تتويجاً لمسيرته الإبداعية. حول مسيرة الشاعر والمترجم الذي توفي يوم الجمعة الماضي (13 أيار/ مايو 2011) أجرت دويتشه فيله الحوار التالي مع الشاعر حسين بن حمزة، الصحفي بجريدة "الأخبار" اللبنانية:
دويتشه فيله: اليوم وبعد اكتمال تجربة الشاعر والمترجم الكبير فؤاد رفقة – ماذا يتبقى من أعمال صاحب "العشب الذي يموت"؟
حسين بن حمزة: أظن يبقى منه الكثير. أولاً، فؤاد رفقة كان صاحب تجربة خاصة، رغم أنها قد تثير الجدل لأنها لم تكن دائماً في الصفوف الأولى من شعر الحداثة العربية التي كان رفقة أحد مؤسسيها وأحد روادها، وكان مع أدونيس وأنسي الحاج وآخرين أحد صانعي مجلة "شعر" الشهيرة التي صدرت في لبنان سنة 1957.
كان رفقة صاحب نبرة خافتة، تحاول أن تخلط الفلسفة بالمعجم الشعري. وكانت هذه الممارسة غير مطروحة بجدية في تلك الفترة، إذ كان الشعراء مشغولين بأشياء أخرى مثل كسر جدار اللغة وفتح فجوات في عمود الشعر. الساحة الشعرية لم تكن تتسع في تلك الفترة لصوت فؤاد رفقة الخافت المتأمل والزاهد. رفقة ظل مخلصاً لصوته.
وهذا الإخلاص تحديداً كان مثاراً انتقادات، وأنت كتبت في مقالك بـ"الأخبار" أنه أمضى حياته كلها في كتابة قصيدة واحدة. ألا ترى أن هذا حكم بالإعدام على شاعر؟
أنا قصدت بهذا التوصيف أن ما فعله رفقة كان قابلاً للنقد وقابلاً للمديح أيضاً. رفقة كان أحد الشعراء الذين أخلصوا للتجربة الشعرية أكثر من إخلاصهم للنقاد أو الصحافة أو ما تريده السوق الشعرية. فؤاد رفقة كان بعيداً أصلاً عن كل هؤلاء، ولذلك بدا إخلاصه لتجربته نوعاً من الفرادة. غير أنه لم يطور معجمه ونبرته وحساسيته لكي تتلاءم مع التطورات الهائلة التي لحقت بالشعر العربي نفسه في الثمانينات والتسعينات. لكن ذلك لا يعيبه. وأظن أن فؤاد رفقة كان يتلقى تعزيزات لما يفعله من مكان ألماني وليس من مكان عربي.
بمعنى؟
بمعنى أنه وجد تقديراً لتجربته لدى من ترجم لهم، من الألمان.
عندما نتحدث عن تأثره بالشعر الألماني أتذكر ما قاله رفقه في حديث سابق لدويتشه فيله، وهو أن لقاءه بالفكر الألماني كان زلزالاً هز كيانه. عندما تقرأ قصائد رفقة العربية هل تشعر بتوابع هذا الزلزال؟
نعم، نعم. هناك تسربات هائلة لممارسات الشعر الألماني في شعر رفقة المكتوب بالعربية. لكن هذا التسرب لا يحدث بترجمة حرفية طبعاً. لقد وجد هناك نوعها من الإسناد نوعا من الدعم، أو – إذا شئنا القول – نوعاً من الاحتياطي لما يفكر فيه. في حوار سابق لي معه في جريدة "الأخبار" قال لي إنه عندما وجد هذا العناق بين الشعر والفلسفة في شعر ريلكه، أحس أنه وجد نفسه أو وجد "مزاجه"، وأعتقد أنه استخدم هذا التعبير.
دويتشه فيله: الشعر الألماني المترجم إلى العربية ارتبط باسم فؤاد رفقة الذي كانت له الريادة بلا شك. ولكن كيف تقيم انجازه اليوم إذا ما قارنته مثلاً بترجمة كاظم جهاد التي صدرت أخيراً للشاعر ريلكه؟
أظن أن هناك فارقين في الترجمة. الفرق الأول في الريادة والأسبقية لصالح رفقة. الفارق الآخر أن رفقة ترجم روح ريلكه وروح هولدرلين بدون أن يسعى إلى هذا الشيء الذي يسعى إليه المترجمون في العادة، وهو إنجاز نص يجاري أو يتفوق على الأصل. هناك صعوبة بالطبع في أن يقوم مترجم عربي، حتى لو كان شاعراً، في إنجاز ترجمة تضاهي شعر ريلكه مثلاً، ولكن أظن أن فؤاد رفقة استأنس إلى فكرة إنجاز ترجمة صحيحة وذات حساسية عالية من دون أن يُقرن ذلك بما استجد في عالم الترجمة.
أظن أن كاظم جهاد قارن ترجمته بما تُرجم لريلكه بالإنكليزية والإيطالية والإسبانية، ثم استخدم مهارات أحدث بسبب انتماء جهاد إلى جيل شعري أكثر شباباً من جيل فؤاد رفقة. قيمة رفقة أنه قدم لنا ريلكه في وقت مبكر، في وقت لم نكن نهتم فيه سوى برامبو وبودلير وآخرين. أظن أن ترجمة رفقة لا تفقد قيمتها ولا مكانتها. ولكن عندما تقرأ الترجمتين تحس أن هناك ترجمة أحدث من ترجمة.
الشاعر والصحافي حسين بن حمزة شكراً جزيلاً لك.
شكراً لك على إتاحة الفرصة لي للحديث عن شاعر كان صديقاً للشعراء وصديقاً للشعر، ولو أنه فعل ذلك في عزلته.
أجرى الحوار: سمير جريس
مراجعة: عماد مبارك غانم