عودة البورقيبية في تونس - إعادة اعتبار أم تبييض لمن طردتهم الثورة؟
١٧ أبريل ٢٠١١مرور ذكرى رحيل الحبيب بورقيبة هذا العام لم يكن على النحو المألوف، فقد عادت معها شخصية بورقيبة الملقّب بـ"الزعيم" و"المجاهد الأكبر"، بشكل لافت لتداعب الذاكرة الجماعية للتونسيين. ولم يتوقف الإهتمام بشخصية بورقيبة عند مراسم ذكرى رحيله (الأسبوع الماضي)، بل تتواصل فعاليات مختلفة في البلاد، مسلطة الأضواء على أبعاد مختلفة من الحقبة البورقيبية في تاريخ تونس الحديث، في فترة الكفاح ضد الاستعمار ومرحلة الاستقلال (1956) وصولا إلى نهاية حكمه سنة 1987، إثر إزاحته من قبل الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
الصحف ومختلف وسائل الإعلام التونسية تخصص مقالات وبرامج وثائقية وحوارية مطوّلة لتعداد مناقب "الزعيم" وتمجيده، استحضرت فيها مقولاته السياسية و"إنجازاته". وبعض الصحف تهدي قرّاءها صورا كبيرة الحجم لبورقيبة في سابقة هي الأولى منذ رحيله. أما المكتبات فقد استغلت بدورها مناسبة رحيله لتعرض آخر الإصدارات حول بورقيبة وفترة حكمه. وبدوره الفضاء الافتراضي وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي فيسبوك غرق بصور الزعيم وبمقاطع فيديو لبعض من خطاباته الشهيرة.
وعلى المستوى الرسمي تحوّل الرئيس التونسي المؤقت فؤاد المبزع والباجي قايد السبسي الوزير الأول (وكلاهما من وزراء بورقيبة السابقين) إلى مسقط رأس بورقيبة بمدينة المنستير (162 كيلومترا جنوب العاصمة تونس) حيث يوجد ضريح الرئيس الراحل وشاركا في موكب إحياء ذكرى وفاة "الزعيم". وقد تم السماح ولأول مرة لرفاق بورقيبة الذين لا يزالون على قيد الحياة بالانضمام إلى "الرسميّين" المشاركين في الموكب. وتوافد الآلاف من التونسيين (ولأول مرة) من مختلف مناطق البلاد على مدينة المنستير للمشاركة في هذا الموكب الذي خصته وسائل الإعلام بتغطية صحافية مستفيضة.
وقد استطلعت دويتشه فيله آراء عدد من الإعلاميين والشبان التونسيين حول مغزى عودة الاهتمام الكبير بشخصية بورقيبة، ويتفق التونسيون على أن الحبيب بورقيبة هو الأب الروحي للدولة التونسية الحديثة، ولكن لا تخلو آراؤهم في عودة الاهتمام بشخصيته من تساؤلات عما إذا كانت تحمل معها محاولات لأطراف سياسية لعب دور ما بعد الثورة التي كانت من أهم القرارات التي اتخذت في أعقابها حل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم في عهد بن علي، والذي يعتبر بورقيبة مؤسسه.
بن علي وبورقيبة
يجمع مهتمون بالشأن التونسي على أن بن علي الذي أزاح بورقيبة سنة 1987 من الحكم فيما يعرف ب "الانقلاب الطبّي" عمل ما بوسعه لتهميش وتغييب بورقيبة حيا وميتا وأنه ضرب تعتيما على كلّ ما يتصل بشخصيته خشية من أن يبرزعلى حسابه.
وكان بن علي وضع بورقيبة في الإقامة الجبرية بمنزل محافظ المنستير (الذي قضى فيه السنوات الأخيرة من حياته) وحاول عزله عن العالم الخارجي ومنع رفاقه من عيادته.
وبعد وفاته منع بن علي بث جنازة بورقيبة عبر التلفزيون التونسي وخيب أمل الملايين في تونس وخارجها من الذين كانوا ينتظرون نقل مراسم الجنازة، إذ بث التلفزيون ساعة تشييع بورقيبة إلى مثواه الأخير، برنامجا وثائقيا عن حيوانات الغابة.
وقد حظر بن علي تنظيم أي احتفالات لافتة في الذكرى السنوية لوفاة بورقيبة. ويقول أهالي بمدينة المنستير حيث يوجد ضريح بورقيبة إن رفاق الرئيس الراحل من السياسيين المعروفين كانوا ممنوعين في عهد بن علي من التحول إلى المنستير للمشاركة في إحياء ذكرى رحيله.
"مناسبة للانتقام من نظام بن علي"
ويقول الصحافي علي العيدي بن منصور إن احتفالات التونسيين الاستثنائية بالذكرى 11 لوفاة بورقيبة جاءت "نكاية في بن علي الذي عمل كل ما في وسعه لتقزيم هذا الرجل الذي يصعب تقزيم دوره".
ومن جهته يرى المحلل السياسي رشيد خشانة أن إحياء الذكرى الأخيرة لرحيل بورقيبة جاءت "على غير العادة" وكانت "مناسبة للانتقام من نظام بن علي والمطالبة بتصفية ما تبقى من رموزه". ويقول خشانة: "مع ابتعاد الحقبة البورقيبية ورحيل الجيل الذي عاش في ظلها واكتوى بنارها، طغت شيئا فشيئا الإيجابيات على السلبيات، بفعل تراكم سيئات بن علي في ميزان المقارنة بين الرجلين".
ويضيف المحلل السياسي الذي يرأس تحرير صحيفة "الموقف" الناطقة بإسم الحزب الديمقراطي التقدمي اليساري المعارض لنظام الرئيس المخلوع: "من المؤشرات الرمزية إلى الفرق بين العهدين أن الشوارع التي تحمل اسم بورقيبة ظلت تحتفظ بأسمائها إلى اليوم، فيما تم تغيير الشوارع التي تحمل اسم السابع من نوفمبر، تاريخ الانقلاب الذي نفذه بن علي في 1987، إلى شوارع تحمل اسم الشاب محمد بوعزيزي، الذي أحرق نفسه ليكون الشرارة التي أوقدت نار الثورة في تونس".
الجيل الجديد وبورقيبة
ويحمل عديد من الشبان التونسيين أفكارا إيجابية عن الرئيس الراحل رغم أنهم لم يعايشوا فترة حكمه. طالبة التاريخ، سعيدة (24 عاما)، وصفت بورقيبة بأنه "قائد" كفاح تحرير البلاد من الاستعمار الفرنسي و"مؤسس تونس الحديثة". وقالت لدويتشه فيله:"تونس دخلت الحداثة مع بورقيبة إذ أصدر سنة 1956 مجلة(قانون) الأحوال الشخصية التي حرّرت المرأة وجعلتها تتمتّع بحقوق فريدة من نوعها في العالم العربي، وأخرج البلد من الجهل بعد أن جعل التعليم مجانيا وإجباريا على الجنسين، ونهض بقطاع الصحة..كما أدخل سياسة تحديد النسل والتي لولاها لكنّا اليوم 20 مليون نسمة وليس 10 ملايين فقط ولكانت كل مشاكلنا مضاعفة".
محمد، الطالب بمعهد الصحافة، ( 23 عاما)، أثنى على ما يمتاز به بورقيبة من "كاريزما وبراعة في الخطابة السياسية وقدرة على الإقناع عند الحديث إلى عموم الناس". وقال:"اكتشفت فيه هذه الميزات من خلال مشاهدتي لبعض من خطبه المسجلة التي أتقاسمها مع أصدقائي على شبكة الفيسبوك...لا أعتقد أن تونس يمكن أن تنجب مرة أخرى سياسيا في مثل براعة وحنكة بورقيبة".
أما أستاذ العربية محسن، (33 عاما)، فقال إنه "لا ينكر الجوانب الايجابية" في شخصية بورقيبة لكنه ذكر بأن الرئيس الراحل "كان مستبدا وسحق كل خصومه السياسيين ونصّب نفسه رئيسا مدى الحياة ولم يزرع بذور الديمقراطية رغم أنه كان قادرا على وضع أسس نظام ديمقراطي بعد أن نجح في تعليم الشعب وتحرير المرأة". بشير (30 عاما) عاطل عن العمل قال:"يكفي بورقيبة فخرا أنه لم يكن هو ولا عائلته لصوصا مثل بن علي وزوجته ليلى الطرابلسي وإخوتها الذين جثموا على صدورنا 23 عاما وسرقونا وأورثونا البؤس والبطالة والفساد".
التراث البورقيبي كمدخل للسياسة
مع صعود أسهم بورقيبة في بورصة الحياة الاجتماعية والسياسية التونسية استغلت بعض الأطراف التراث البورقيبي لتدخل به عالم السياسة. مازري حداد سفير تونس السابق باليونسكو والذي كان من الموالين والمدافعين عن نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي أعلن من باريس عن تأسيس حركة سياسية أطلق عليها اسم "حركة البورقيبية الجديدة". وأعلن أن الحركة ونشاطها يندرجان في إطار "الوفاء للكونية البشرية واستمرارية التقاليد الوطنية والإصلاحية التونسية التي كان الحبيب بورقيبة مؤيدها وجوهرها في ذات الوقت مع رفاقه القوميين".
55 شيخا من الأعضاء السابقين في "الحزب الحر الدستوري التونسي" الحاكم في عهد الحبيب بورقيبة أعلنوا مؤخرا عن إحداث حركة سياسية جديدة تعتمد على مبادئ حزب الرئيس الراحل. ويعتقد بعض السياسيين في تونس أن إبراز دور الراحل بورقيبة يساهم في تقوية التيار الليبرالي العلماني في تونس في مواجهة مخاطر تنامي نفوذ الإسلاميين وخصوصا حزب النهضة الذين حصل على ترخيص كحزب سياسي.
لكن بعض المحللين والسياسيين يخشون من أن يكون وراء الإهتمام الكبير بشخصية بورقيبة وتمجيدها، محاولات لبعض الأطراف التي طردتها الثورة من الباب، عبر حل التجمع الدستوري الحاكم، للعودة إلى الحياة السياسية من النافذة عبر فعاليات لإحياء تراث بورقيبة، ومن ثم "تبييض" مسارهم السياسي وبعثه من جديد.
وقد انتقد الكاتب ظافر ناجي في مقال بعنوان "البورقيبية أو السلفية السياسية المعاصرة" نشرته له مؤخرا جريدة "الدوليّة" الأسبوعية التونسية "التصاعد الكبير لتمجيد بورقيبة" في الذكرى 11 لوفاته وتساءل عن "الدافع لأن تعود الثورة المتحركة نحو الأمام تاريخيا لتنبش في الماضي حتى تستعيد منه نموذجا". وقال إن "الفكر التونسي يحتاج إلى دفق حداثي يصوغ مشروعا جديدا يلائم المرحلة الجديدة وإلا فنحن إزاء سلفية سياسية مخصيّة لا تنظر إلى المستقبل إلا باعتباره إعادة إنتاج لنموذج سابق".
منير السويسي - تونس
مراجعة: منصف السليمي