1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

عوالم روحانية في كال

٩ نوفمبر ٢٠١٠

أوروبيون وآسيويون وأمريكيون وجدوا صفاء النفس في صوفية الإسلام. هنا تغيب الحدود، ويختلط العشق الإلهي بالموسيقى. وفي لحظة سمو روحي يتآخى الجميع في مشهد وجدت فيه أجمل صورة لانسجام لا حدود له.

https://p.dw.com/p/Q1xT
الشيخ عبد الودود، مهندس الماني ترك مهنته ليعيش الصفاء الروحي في تكية الشيخ حسنصورة من: DW

المكان:قرية كال على بعد 20 كيلومترا من الحدود الألمانية البلجيكية.

الزمان: السبت الأول من كل شهر ابتداء من الساعة الخامسة مساء.

المناسبة: سهرة صوفية مع الموسيقى والذكر.

الدعوة عامة للجميع ولا تحديد على الملابس.

جمعّتُ كل هذه المعلومات واتجهت إلى تكية صوفية تقع في أعلى جبل بين الغابات الكثيفة. من باب "التكية" يشم الزائر رائحة البخور التي تميّز أماكن العبادة. في الداخل يشعر الإنسان أنه يخرج من أوروبا إلى زاوية في أقصى آسيا تتجاوز حدود المكان والزمان، أرضية المكان من الخشب يغطيها السجاد، وفي يسار المدخل مقهى شرقي الملامح يقدم المشروبات غير الكحولية والحلوى والمقبلات، في ركن آخر من "الزاوية" صالة مفروشة يلعب فيها الأطفال ويتعالى ضجيجهم، بعدها يصل المرء إلى المسجد، صالة كبيرة تضم ثلاثة أقسام: أحدها للرجال تفصله ستارة عن القسم الآخر المخصص للنساء، والثالث مخصص لبيع العطور الشرقية والملابس وسجاجيد الصلاة والكتب.

الصفاء بعيدا عن تعقيدات الحياة العصرية

Osmanische Moschee In Kall
الشيخ حسن دايك، إمام تكية المضيف العثماني في كال غرب ألمانياصورة من: DW

أنغام الناي تختلط بصوت محمد المغربي وهو يترنم بالمدائح النبوية. في ركن منعزل يجلس الشيخ عبد الودود بلحيته الحمراء الكثة وهو يقلب حبات مسبحته. حين سألته عن جنسيته أجابني والابتسامة تعلو وجهه إنه ألماني، ترك مهنة الهندسة التي قضى فيها 22 عاما والتجأ منذ عامين إلى هذا المكان، بحثا عن السلام والصفاء. عبد الودود غير متزوج، ويعتقد أن المرء لا يحتاج إلى العمل والمال إذا كان قنوعا، واحتياجاته محدودة، فالأكل موفور في هذا المكان، ويأتي من تبرعات الخيرين والأتباع.

والملابس بسيطة، يغسلها ويعيد ارتداءها، ولا حاجة إلى هاتف جوال ولا سيارة ولا تلفزيون ولا بيت وأثاث وما إلى ذلك، المهم، حسب رأي الشيخ عبد الودود، هو الصفاء الروحي. والإنسان الذي يولد ألمانيا يحمل إرادة خاصة إذا تلا شهادة أن لا اله إلا الله محمد رسول الله، فهي، في تقدير عبد الودود، شهادة خالصة، وليست موروثة، كما هو الحال مع من ولد لأبوين مسلمين.

دخل المكان شيخ وقور بلحية بيضاء طويلة، تحلّق حوله الناس وبدأوا بتقبيل يده والتبرك بلمس ثيابه، نهض الشيخ عبد الودود من جلسته معي وهو يقول إن الشيخ حسن "ولي" هذا المكان قد وصل ولابد أن يذهب لتحيته.

Osmanische Moschee In Kall
صورة من داخل مسجد التكيةصورة من: DW

الشيخ حسن دايك، تاجر ألماني اعتنق الإسلام منذ عام 1979 وتفرّغ لشؤون العبادة، له أتباع كثر، ويعتبر نفسه تلميذا للشيخ ناظم أحمد، شيخ الطريقة التي يتبعونها. جلست إلى الشيخ حسن بعد جهد في زاوية من المقهى، وتحلّق الناس حولنا، أحدهم وهو تركي جلب ابنه ذا الخامسة، عسى أن يشفي الشيخ حسن عينه المريضة بالدعاء، أخرى من البوسنة جلبت ابنها المقعد لنفس الغرض، فيما جلس رجل فرنسي وزوجته بانتظار أن "يكشف الشيخ عنهما الحجاب" فيرزقان بذرية حُرما منها رغم 8 أعوام من زواجهما.

دون مقدمة سألت الشيخ حسن عن صورة الإسلام المتسامح التي أراها في هذا المكان، مقارنة بصورة الإسلام المتشدد التي تشغل الناس، وتؤرقهم بعنفها الدموي، فأجاب وهو يعدل نظارته على عينه، بلهجة أقرب إلى الحدة " إن ما نقوم به هو محبة وعشق لله، والإنسان يجب أن يفهم أنه عبد للرب، وهذا هو ما نصت عليه كل الأديان السماوية، أما ما نشاهده من خلط الدين بالسياسة، فهذا لا علاقة له بمحبة الخالق. الدين المخلوط بالسياسة لا يثير اهتمامي، والله يقظ لا ينام وعارف بنوايا المسلمين".

و يرى الشيخ حسن "أن جميع الناس هم أمة محمد رسول الله، وليس مهما أن يعرفوا ذلك أو لا يعرفوه، والموضوع لا علاقة له بجنسية الإنسان، سواء كان ألمانيا أو غيره، فالقلب يهتدي إلى الحقيقة بنور الله، لأن الله هو الحادي، ألم تر أن قريبة توني بلير قد اعتنقت الإسلام! الإسلام دين التسامح، التسامح طبعا ليس مع الأشرار، وليس مع الشيطان".

الشيخ حسن متزوج من ألمانية وقد أسلما معا منذ 31 سنة، ولهما 5 أبناء و10 أحفاد، وحين سألته عمن ينفق على هذا المكان الكبير والمكلف، قال إن أموال الصدقة تكفي لتسيير العمل، كما أن عددا من المؤمنين يقومون على خدمة المكان، مضيفا بابتسامة عريضة "هو بيت من بيوت الله حيث السلام والمحبة، نسبّح فيه للرب ونعيش بسلام".

نساء ونساء

Osmanische Moschee In Kall
السيدة خديجة، المانية اعتنقت الاسلام منذ 20 عاما وتعمل في كالصورة من: DW

في محل البيع التقينا بخديجة، وهي ألمانية تبلغ من العمر خمسين عاما، ترتدي الحجاب، واعتنقت الإسلام منذ عشرين عاما، ابناها تخرجا من الجامعات ويقطنان دوسلدورف، أما هي فقد اختارت أن تعيش قرب التكية في كال، وتعمل في مجال العناية بكبار السن والمعاقين. ولا ترى خديجة تناقضا في اختيارها الإسلام بدلا عن المسيحية، بل تجد في قيم الإسلام الصوفية راحة نفسية كما قالت.

مريم أحمد عراقية من مدينة الموصل، ترتدي الحجاب و تعمل وزوجها في محل البيع الصغير الخاص بالتكية، وترى أن الألمان شعب دافئ، لكن قوانين البلد معقدة وصعبة جدا، وهي تشكو من العزلة وتعاني من الشوق للعودة إلى وطنها، إلا أن وضعها القانوني صعب، لأنها لا تمتلك وثائق سفر عراقية ولا ألمانية. مريم تقول إن هذا المكان هو نافذتها الوحيدة على العالم.

حسنيّة المغربية ترتدي جلبابا مغربيا أزرق زاهي اللون، وتضع على رأسها شالا بسيطا، فيما يتدلى من أذنيها قرطان ذهبيان كبيران، تبتسم وهي تجيب على أسئلتي بخصوص الاختلاط وتقول إن الاختلاط مهم، لأننا في أوروبا، ولابد أن نكون جزءا من المحيط الذي نعيش فيه، لكي لا نشعر بالعزلة. وحسنيّة متزوجة من رجل ألماني اعتنق الإسلام بعد زواجها به، وكلاهما لم يرزقا بأطفال، وهي تجيب بتواضع أنّ هذا الموضوع متروك لإرادة الله. وتأتي حسنيّة إلى هذا المكان منذ سنوات طويلة، وتحرص أن تشارك هي وزوجها في كل ليلة ذكر.

مهري الإيرانية وصديقتها غلناز التركية في الثلاثينيات، لا ترتديان الحجاب، وتظهر على ملامح وجهيهما البهجة والنشوة وهما تستمعان إلى صوت الناي المختلط بالمديح النبوي.

مهري ترى في هذا المكان تجمعا مسلّيا يلتقي فيه الزائر بأناس من مختلف الجنسيات والأصول، وتضيف غلناز " هؤلاء الناس المختلفون يجمعهم الحب". وأسألها: أيّ حب؟ تبتسم بدلال وتقول: "الحب هو الحب، لا أظنه يحتاج إلى تعريف، إنه إحساس يبدأ من القلب ويتسرب إلى كل الجسد والحواس".

قادمون من مجتمعات مغلقة

نوفل ذو الأصل المغربي وحبيب من غانا يحملان جنسية بلجيكية، وقدما للمشاركة في ليلة الذكر الصوفية. حبيب يقول إن أصله نصف مسلم لأن والدته مسلمة وأباه كان مسيحيا، كما أنه لا يجد صعوبة في ممارسة شعائر الإسلام في المكان الذي يسكنه، لأن جميع سكان الحي من المسلمين.

عبد الخالق يبدو بلحيته الذقنية الصغيرة وطاقيّته الملوّنة عربيا من شمال إفريقيا، بادرته بالعربية من أي بلد هو؟ فأجاب بالانكليزية إنه لا يتقن العربية، فأعدت سؤاله بالانكليزية، ضحك وهو يقول إنه هولندي، أصله من سورينام في شمال أمريكا الجنوبية، وقد اعتنق الإسلام لأن أباه مسلم يتبع طريقة الشيخ ناظم أفندي الصوفية. عبد الخالق دأب على زيارة هذا المكان منذ 20 عاما حيث كانت التكية جزءا صغيرا من بيت الشيخ حسن، كما أن والده يحيي ليلة ذكر كل جمعة في هولندا.

عبد الخالق الذي يعمل نجارا يجد البركة في هذا المكان ويجد السلام والصفاء في صحبة الشيخ حسن. عبد الخالق متزوج من طالبة مغربية ولا أطفال عندهم، وحين سألته عن السبب قال إن الله لم يشأ بعد أن يمنحهما أطفالا. عبد الخالق وأسرته يقطنون في مدينة دن هاخ الهولندية، ويصف الحي الذي يعيشون فيه بأنه ذو صبغة عالمية، إذ يضم خليطا من المسلمين من كل أنحاء العالم، ولا يشعر المرء فيه أنه في أوروبا، حتى أن شوارع الحي تخلو من الناس ساعة الإفطار في شهر رمضان.

يصطف الناس للحصول على طعام العشاء الذي أعدته طباخة هندية. وبعد العشاء أطفئت الأنوار، وبدأت مراسم الذكر، وتعالى صوت الشيخ حسن يتهدج بالذكر والناس يرددون بعده. وبعد ساعة أضيئت الأنوار والتأم الجميع في مراسم الذكر وحركاته.

غادرت المكان الدافئ المزدحم، فاستقبلني برد ومطر شديدين أعاداني فورا إلى ألمانيا، قلب أوروبا.

ملهم الملائكة

مراجعة: منى صالح

تخطي إلى الجزء التالي اكتشاف المزيد