ابن مدينة جرجيس التونسية.. قصة تكريم لأموات المهاجرين
٢١ ديسمبر ٢٠١٧يحاول شمس الدين مرزوق أن يأخذ معه زجاجتين من المياه قبل توجهه إلى جنوب البلاد. ويسلك شمس الدين طريقا ترابيا يمر عبر بستان أشجار الزيتون والحقول الزراعية، للوصول إلى المقبرة. وفي أطراف إحدى مكبات النفايات السابقة علقت لافتة كُتب عليها: "مقبرة الغرباء" وكتبت اللافتة بعدة لغات.
وذكر مرزوق أنه دفن أكثر من 350 جثة في السنوات العشر الماضية. وفي هذا العام وحده دفن 74 جثة. ويخشى شمس الدين أن يزداد عدد الجثث ويقول لـ DW: "في الشتاء عندما تهب الرياح من الشرق تأتي الكثير من الجثث عبر البحر إلى خليج مدينة جرجيس".
وتقع جرجيس على بعد 50 كيلومترا تقريبا من الحدود مع ليبيا. ومن الأراضي الليبية تبدأ بصورة مستمرة الكثير من الرحلات عبر القوارب المتجهة نحو أوروبا. وتواجه قوارب الموت كما يسميها شمس الدين المشاكل في البحر بصورة مستمرة، وتتعرض للغرق أو الانقلاب. وعندما يحالف الحظ الركاب تنقذهم سفن الإنقاذ التي تشرف عليها المنظمات غير الحكومية أو القوات البحرية لأحدى الدول المطلة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. و"إذا لم يحالفهم الحظ فيأتون إلينا"، كما يضيف شمس الدين.
كل قبر يحمل قصة
ويتجول مرزوق (52 عاما) العامل التطوعي في منظمة الهلال الأحمر التونسية، على طول القبور في المقبرة، ويتأمل بين فترة وأخرى القبور ويروي الزهور التي زرعها على القبور. ودفن شمس الدين طفلين في المقبرة ووضع فوق قبريهما أحجار اللعب "ليغو" وألعاب سيارات. وكل قبر يحمل قصة حتى إذ لم يكن يعرف شمس الدين قصصهم وأصولهم.
فيما وُضعت فوق أحد المرتفعات الترابية الصغيرة لوحة حديدة كتب عليها رقم ووضع حجر من المرمر فوق القبر كتب عليه : روسه ماري . نيجيريا. 27.05.2017
وهذا القبر يعود لروسه ماري التي توفيت بعمر 28 عاما، وهي مدرسة من نيجيريا. وتوفيت في مطلع العام الحالي أثناء سفرها عبر البحر، وتمكنت حماية السواحل التونسية من إنقاذ 126 لاجئا كان معها ونقلوهم إلى تونس. وقال شمس الدين" رفيق حياة روسه ماري يعيش في مركز اللاجئين بالقرب من هذا المكان، وكان هنا قبل يومين وجلب معه بعض الزهور".
الكرامة والاحترام
وعمل شمس الدين صيادا في السابق. حيث وجد مع زملائه الكثير من الجثث أو بعض الأأطراف بشرية في البحر، أثناء عمله في عمق البحر. ومنذ نهاية تسعينات القرن الماضي، تولى شمس الدين عملية تنظيم دفن الموتى من السلطات، وبدأ بدفن الجثث في مقبرة المدينة. لكن أعداد الجثث بدأت بالتزايد، و"أشتكى الناس من أن المقبرة بدأت تمتلئ بقبور الغرباء، بينما لم يبق مكان لدفن سكان المدينة"، كما يقول شمس الدين لذلك قررت إدارة المدينة وبالتعاون مع منظمة الهلال الأحمر تخصيص قطعة أرض بالقرب من الساحل محاطة بالنفايات التي رماها سكان المدينة، لتكون مقبرة الغرباء. وصار شمس الدين يدفن جثث المهاجرين في هذه المقبرة.
ويضيف:" هؤلاء الأشخاص تعرضوا للاضطهاد في بلدانهم وفي ليبيا، ويموت بعضهم في الصحراء أو يلجأون لقوارب الموت". وعند دفنهم يجب أن يُعطى لهم بعض الكرامة والاحترام على الأقل".
ولا تعد مهمة شمس الدين سهلة، إذ يترتب عليه في بعض الأحيان دفن بعض أطراف أجسام المهاجرين، أو دفن جثث متضررة أو تعاني من التعفن بسبب بقائها لفترة طويلة في مياه البحر. لكنه يرى في عمله هذا واجبا يجب القيام به، وخاصة أن جميع البشر متساوون قبل موتهم، رغم اختلاف أصولهم ودياناتهم. ويضيف قائلا:" إذا لم نحتفظ بما تبقى لنا من إنسانيتنا فأنه ستكون هنالك حربا عالميا ثالثة قريبة منا".
البعض اعتبرني مجنونا
ويأتي شمس الدين مرزوق مرتين إلى ثلاث مرات أسبوعيا إلى المقبرة وللتأكد من أن كل شيء يجري فيها على ما يرام. ويقول:" البعض اعتبرني مجنونا". وكثيرا ما يحك ظهره، إذ أن دفن العديد من الجثث هذا العام أثر أيضا على صحته الجسدية.
وأتهم شمس الدين أوروبا وسياسة الحدود في حصول مأساة هؤلاء المهاجرين، وذكر أنه بدلا من الاستثمار في أفريقيا وتسهيل الحصول على الفيزا، يُجبر الناس على الصعود في القوارب للتوجه إلى أوروبا. وحتى اثنان من أبنائه ركبوا القوارب واتجهوا إلى أوروبا.
جمع التبرعات للمقبرة
ويتساءل مرزوق، ربما حاول هؤلاء الموتى تجنب الموت وفشلوا. وكان شمس الدين يقف دائما ضد موضوع الهجرة بهذه الطريقة، "لكنهم تعلموا منذ الثورة في تونس التي جرت قبل سبع سنوات على الصبر، وتعلموا على الحياة دون عمل ودون رؤية طويلة الأمد". واليوم يفهم اختيارهم قليلا، لأن الشباب في تونس هم مثل الأموات بحكم الواقع. "وهكذا يتوفى الناس بكرامة في البحر – أو ينجحون في الوصول إلى أوروبا، حيث توجد على الأقل الديمقراطية".
قبر آخر تم حفره في هذه المقبرة، وهو سيكون الأخير في المنطقة لأنه لا يوجد مكان آخر لقبور إضافية. وتجمع منظمة الهلال الأحمر التونسية تبرعات لشراء أرض جديدة لإنشاء مقبرة أخرى عليها، ولشراء سيارة نقل للموتى بدلا من نقل رفاتهم في سيارة النقل الصغيرة. ويقول مرزوق إنه إذا لم يحصلوا على الدعم، فأنهم "سيقومون بجمع الحطب في المستقبل وحرق الجثث ووضع رماد الموتى في أوعية ورميها في البحر من جديد". وهذا هو الحل الوحيد إذا لم يُعط للموتى الاحترام المطلوب. لأن رحلة الموت في البحر لم تنته بعد، كما يوضح شمس الدين.
سارة ميرش/ زمن البدري