"تيفو" جزائري غاضب يُخفي غابة خلافات مع السعودية
١٩ ديسمبر ٢٠١٧لم يتوقف "التيفو" (لافتة تشجيعية ضخمة)، الذي رفعه مشجعو كرة جزائريون، عند موقف من ينتقدون الدولة السعودية في سياق علاقتها مع دونالد ترامب فحسب، وإنما فتح باب النقاش كذلك حول استمرار علاقة باردة بين الجزائر والسعودية، لم تفلح الكثير من الاتفاقيات والزيارات المتبادلة في جعلها، على الأقل، شبيهة بالعلاقة السعودية القوية مع جلّ بلدان المنطقة المغاربية.
ويدرك المتتبعون عمق التعاطف القوي للجزائريين مع الفلسطينيين، فمقولة الرئيس الجزائري الراحل الهواري بومدين "الجزائر مع فلسطين، ظالمة أو مظلومة" تعد "مبدأً غير مكتوب في السياسة الخارجية للجزائر"، وفق قول الخبير السياسي حسني عبيدي. هذا الأمر جعل جزءاً كبيراً من الشارع الجزائري لا ينظر بعين الود إلى الموقف السعودي من التطوّرات الأخيرة في القدس، خاصة وأن موقف دونالد ترامب أتى بعد مدة قليلة على توقيعه صفقات مع الرياض تتجاوز قيمتها 400 مليار دولار.
محاولة احتواء الصدع؟
التيفو الذي رفعه عدد من أنصار فريق عين مليلة في مباراتهم مع فريق معسكر غالي نهاية الأسبوع الماضي، جمع صورتي الملك سلمان بن عبد العزيز، ودونالد ترامب، وإلى جانبهما العلم الفلسطيني، ويتضمن التيفو عبارة "وجهان لعملة واحدة". الرياض لم تصمت وقالت على لسان سفيرها بالجزائر إنها تواصلت مع الجانب الجزائري وستقوم بما يلزم بعد دراسة الموضوع، فيما أكدت السلطات الرياضية الجزائرية على لسان رئيس الرابطة المحترفة لكرة القدم أنها لم تتخذ أيّ إجراءات بعد ما جرى.
ويتحدث الباحث حسني عبيدي، مدير مركز الأبحاث والدراسات حول العالم العربي ودول المتوسط، أن الجزائر لن تذهب بعيدا في قضية هذا التيفو، لأنها تستحضر أن الموضوع جد حساس على الساحة الداخلية نظراً لصعوبة الظروف الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، كما تدرك الجزائر، يستطرد المتحدث، أن اتخاذ أيّ إجراءات صارمة من شأنه تأليب الرأي العام وخلق تداعيات خطيرة على أمن النظام الجزائري، لا سيما وأن الملاعب في الجزائر تعدّ "مساحة تفريغ للشباب".
ويتابع عبيدي في تصريحات لـDW عربية، أن السعودية لن تذهب بدورها بعيداً في البحث عن اعتذار جزائري حول الموضوع، لأن الجزائر، وعكس مجموعة من دول المنطقة، لا تعتمد في اقتصادها على الدعم المالي السعودي، وبالتالي فهي تملك هامش مناورة أكبر من جيرانها في علاقتهم مع السعودية. ويرى عبيدي أن السعودية سارعت إلى إرسال رئيس مجلس الشورى السعودي، الشيخ عبد الله بن محمد، إلى الجزائر، في زيارة جرى التعجيل بها أربعة أيام عن موعدها الرسمي، حتى يتم امتصاص ما جرى والتسريع في احتوائه.
خلافات كبيرة
التصريحات الرسمية تفيد أن هدف هذه الزيارة التي بدأت اليوم الثلاثاء، 19 ديسمبر/ كانون الأول 2017، هو "تنسيق المواقف المشتركة بين الجانبين في مختلف القضايا وتعزيز العلاقات الأخوية". وقبل هذه الزيارة، كان رئيس الوزراء الجزائري السابق، عبد المالك سلال، قد زار الرياض وأجرى عدة مباحثات. وفضلاً عن ذلك، وقع الطرفان مؤخراً عدة اتفاقيات اقتصادية، مثلما جرى في فبراير/ شباط 2017، ممّا قد يفيد ظاهرياً بتميز علاقة الجانبين.
غير أن العلاقة تخفي الكثير من مواطن الاختلاف، فالجزائر غابت عن "التحالف الإسلامي ضد الإرهاب"، الذي أعلنته الرياض عام 2015 وانضمت إليه 35 دولة. كما أن الجزائر لم تشارك في تحالف "عاصفة الحزم"، الذي قادته السعودية في اليمن دعماً لحكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، زيادة على أنها كانت أوّل دولة تؤكد موقفها بالحياد في الأزمة الخليجية الأخيرة. وليس الاختلاف في وجهات النظر بين الطرفين إزاء القضايا الإقليمية جديداً، فالجزائر كانت –ولا تزال وإن بدرجة أقل- من المحسوبين كقطب اشتراكي يُخالف التوجهات السياسية للدول العربية التي تتقارب مع واشنطن.
ومن أبرز الملفات، التي أكدت وجود هذا الخلاف، ما يتعلّق بالأزمة السورية، فالجزائر أبقت على علاقات قوية مع نظام بشار الأسد، إذ عبّر بوتفليقة مؤخراً عن "أمله في أن تنتصر سوريا على الإرهاب" في إحدى برقياته إلى الأسد، عكس الرياض، التي جعلت رحيل هذا الأخير شرطاً لإنهاء الأزمة. كما أن الجزائر تعدّ صديقة قوية لإيران، خصم السعودية اللدود في المنطقة، وقد تعدّدت الاتفاقيات الموقعة بين الطرفين، خاصة وأن الحكومة الجزائرية تعوّل على الاستثمارات الإيرانية للمساهمة في تجاوز أزمة تدهور العائدات النفطية.
ويرى حسني عبيدي أن العلاقة بين الطرفين تعاني "فتوراً هيكلياً يعود إلى تراكمات عقود مضت". ويعطي الباحث أسباباً أخرى لما جرى ذكره، منها أن الجزائر ترى أن السعودية كانت من المساهمين الأساسيين في تهميش دور منظمة أوبك، عبر ضخها كميات كبيرة من النفط أدت إلى تدهور الأسعار، ممّا أثر سلباً على الاقتصاد الجزائري. ومن هذه الأسباب كذلك انتقادات الجزائر لـ"الوهابية" وتحميلها جزءًا كبيراً من مسؤولية انتشار الحركات الإسلامية بالبلاد نهاية القرن الماضي، وما لحق ذلك من أحداث عنف فيما أطلق عليه "العُشرية السوداء"، بعد إلغاء الانتخابات التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
ويُردف حسني عبيدي أن القيادة الحالية في البلدين لم تستطع تجاوز الخلافات، بل زادت حدتها مع جلوس الملك سلمان على عرش السعودية، خاصة مع تنامي الخلاف على دور النظام الإيراني والجماعات التي يدعمها، إذ "ترغب الجزائر بالحفاظ على مسافة الحياد من الصراع السعودي-الإيراني، كما أنها ترفض أيّ مشاركة عسكرية لجيشها في الخارج، لأن ذلك يناقض الدستور الجزائري".
هل تزيد "القضية الفلسطيينة" عُمق الخلاف؟
في مقابل الخطوات الديبلوماسية واللغة الهادئة التي تعتمدها جلّ الأنظمة العربية للرّد على الخطوات الأمريكية والإسرائيلية، يبقى الشارع العربي والإسلامي أكثر تحرّراً في رفع شعارات تدافع عن الفلسطينيين، لدرجة أن أغلب المظاهرات شهدت أشكالا من الاحتجاج تعتبرها تل أبيب أو واشنطن متطرّفة. لكن في الجزائر، لا يظهر الفرق كبيراً للغاية بين شعارات الشارع ومواقف الحكومة من النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، فالجزائر تعدّ من أكبر الأعمدة العربية المشهورة بمقاطعتها لإسرائيل، إذ تشدّد الدولة في قوانينها الرافضة لأيّ تطبيع مع تل أبيب.
لذلك لم يكن غريباً أن ينحاز المشجعون الجزائريون في مباراة ودية أقيمت بملعب جزائري عام 2016 بين المنتخبين الأولمبي الجزائري ونظيره الفلسطيني لهذا الأخير، إذ حمل ما يفوق 80 ألف متفرج الأعلام الفلسطينية، بل كانت فرحتهم غامرة عندما سجلّ لاعب فلسطيني هدفا في مرمى منتخب بلدهم. هذا التعاطف الكبير يعود إلى عقود مضت، وتحديداً منذ استقلال الجزائر عن فرنسا عام 1962، إذ تحوّل البلد إلى ملتقى زعماء الحركات الثورية، الذين كانوا يحاولون استلهام نموذج الثورة الجزائرية، ومن بينهم منظمة التحرير الفلسطينية، التي فتحت مكتبها بالجزائر عام 1965، كما أن إعلان ياسر عرفات ميلاد الدولة الفلسطينية، كان من الجزائر عام 1988.
يعلّق حسني عبيدي أن "القضية الفلسطينية عمّقت الخلاف أكثر، لكن فقط على مستوى الرأي العام الجزائري الذي أضحى يتوفر على مساحة افتراضية إعلامية بمعزل عن السلطة والإعلام الرسمي". ويتحدث مدير مركز الأبحاث والدراسات حول العالم العربي ودول المتوسط أن الرأي العام الجزائري مقتنع أن السعودية لم تتحرك بما يلزم لمواجهة خطوة ترامب، خاصة لمركزية السعودية الدينية وثقلها الاقتصادي، حتى وإن كانت السعودية قد نددت رسمياً بموقف ترامب كما فعلت جلّ الأنظمة في المنطقة.
إسماعيل عزام