1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

بعد مقتل جون قرنق: السودان إلى أين؟

بعد أن تنفس السودانيون ومعهم العالم الصعداء اثر اتفاق إنهاء الحرب العبثية بين حركة "تمرد الجنوب" والحكومة، يأتي مقتل زعيم الحرب وبطل السلام، جون قرنق، ليقي بظلاله على المشهد السياسي السوداني ويضع السودان على مفترق طرق

https://p.dw.com/p/6zU7
اتفاق السلام لم يدم طويلا في السودانصورة من: AP

كان الدكتور جون قرنق في السلطة أو قريبا منها، لكنها عندما جارت على شعبه عموما وأهله في الجنوب على وجه الخصوص، تركها وذهب إلى المعركة، حاملا إلى جانب آمال الكثير من السودانيين، السلاح في وجه سلطة استبدادية انفردت بالثروة والسلطة، وفوق هذا وذاك حاولت بالقوة فرض ثقافتها ومعتقداتها الدينية وقوانينها "الإسلامية المتطرفة" على الأخر، غير المسلم. فكان مناضلا جسورا ومقاتلا شرسا و زعيم حرب بامتياز. لكن عندما تأتت الظروف الذاتية والموضوعية لترك السلاح والجلوس إلى طاولة المفاوضات من أجل سودان موحد على أساس العدل والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع طوائفه الدينية وفئاته الاجتماعية وأقاليمه الجغرافية بدون تمييز، كان هو بطل السلام الجريء والسياسي المحنك الذي وقف أمام العالم وأمام الشعب السوداني الطيب، التواق إلى السلام والعدل والحرية والمساواة ليقول بعد سنوات من الحروب والويلات إن "السلام اليوم ليس حلما بل حقيقة". إذا، في ظروف لا تزال غامضة ولم تتضح معالمها بعد، غاب عن الساحة السودانية أهم الفاعلين التاريخيين الرئيسيين في السياسة السودانية في ظروف غاية في الحساسية، مما قد يجعل السودان في الفترة القادمة أمام مفترق طرق وربما العودة إلى دوامة الحرب الأهلية في أسوأ الأحوال، وفي أفضلها انفصال الجنوب عن الشمال.

ظروف وملابسات موت قرنق

Sudan, Karthun Unruhen nach dem Tod des Vizepräsidenten John Garang
آثار أعمال العنف التي شهدتها العاصمة الخرطوم أثر مقتل قرنقصورة من: dpa

تداعيات موت قرنق على المشهد السوداني لا تزال غير واضحة بدقة، لكن ملامحها بدأت تتكشف في ذلك الهيجان الشعبي الذي شهدته الخرطوم وبعض مناطق السودان. فإثر إعلان الرئاسة السودانية عن وفاة قرنق، بتحطم طائرة الرئاسة الأوغندية التي كانت تقله، أشعل فتيل العنف الآلاف من السودانيين وسادت أعمال الشغب في شوارع الخرطوم. موت قرنق قدم، وفقا للرواية الرسمية "على أنه "قضاء وقدر" وبأن الحادث كان "عرضيا" فهل هو كذلك؟

لا يستطيع أحدا أن يجزم حتى اللحظة أن قرنق تعرض لحادث عرضي غير مدَبر كما لا يستطيع أحد أن يثبت العكس. لكن المألوف في السياسة العربية وفي العالم الثالث عموما أن تصفية السياسيين فن تجيده أنظمة الحكم والخصوم السياسيين. المثير للانتباه أن كل من الحكومة السودانية وقيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان التي ينتمي إليها قرنق اتفقوا قبل البدء بالتحقيقات على أن الحادث عرضي وصدرت بيانات رسمية تؤكد هذا من كلا الجهتين.

موقعنا حاول الاتصال بالسفارة السودانية للإطلاع على وجهة النظر الرسمية وأخر تطورات الوضع، وكذاك الاتصال بالمحللين السودانيين المطلعين على الشأن السوداني للاطلاع على مختلف وجهات النظر.

وفي معرض اجابته على سؤالنا حول الوضع الحالي في السودان، قال السيد معاوية البخاري، القنصل العام بسفارة السودان إن الوضع بصفة عامة "مأساوي بفقدان الدكتور قرنق الذي ترك فراغا كبيرا"، لكن الحكمة متوفرة بتجسيد المعاني التي تركها مما "سيجعل المسيرة التي بدأها تستمر". ونفى السيد معاوية وجود لجنة تحقيق في الحادث مشيرا إلى أن كل الإطراف "متفقة على أن الأمر قضاء وقدر، فالطائرة اصطدمت بجبل في ظل سوء الأحوال الجوية".

Trauer um John Garang
حداد على قرنقصورة من: AP

لكن بعض المحللين السياسيين يشككون في ذلك ويشيرون إلى أن اختفاء قرنق من الساحة السياسية يصب في مصلحة كل من الحكومة وبعض أجنحة جبهة تحرير السودان على حد سواء. وفي هذا السياق يعتقد الدكتور عز الدين بخيت، المحلل السياسي السوداني، والمسئول الاقتصادي لدى هيئة الأمم المتحدة، في مقابلة مع موقعنا أن "الحادث قد يكون مدبرا". وحول اتفاق وجهة النظر الرسمية مع وجهة نظر قيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان في تفسير الحادثة، يقول إن "الحكومة التي تلتقي مصلحتها في الانفصال مع مصلحة الجناح الذي يمثله زعيم الحركة الجديد سلفا كير قد يكون هو التفسير المنطقي لاتفاق وجهتي النظر" فكلا الطرفين لهما، وفقا لتعبيره مصلحة في اختفاء قرنق من الساحة. " ففي غياب قرنق اتيحت الفرصة للانفصال، ومعروف عن سلفا كير المعارض لوجهة نظر قرنق منذ فترة طويلة أنه يفضل الانفصال على الوحدة وهذه الرؤية تتفق مع الرؤية غير المعلنة للحكومة السودانية". يشير بخيت إلى أن هناك هجين ثقافي من كل فئات الشعب السوداني تقف مع الوحدة وتعارض الانفصال وغياب قرنق قد يتيح الفرصة للتملص من الاتفاق.

Sudan, Karthun Unruhen nach dem Tod des Vizepräsidenten John Garang
جانب من المظاهرات التي شهدتها الخرطوم بعد مقتل قرنقصورة من: dpa

غير أن الدكتور عبد المولى كنجوم وهو أستاذ أكاديمي يميل إلى تصديق الرواية الرسمية لموت قرنق. ففي مقابلة مع موقعنا، اعتبر أن الشكوك التي تحوم حول إمكانية أن يكون قرنق قد قٌتل لا تعدو أن تكون ناتجة عن تفسير الأمور "وفقا لنظرية المؤامرة". وبيمنا يفسر الدكتور بخيت المظاهرات عقب إعلان مقتل قرنق بأنها جاءت كتعبير عن تخوف الشارع السوداني من الانفصال وهي، حسب تعبيره حدثت في المناطق المهمشة والمهملة في الخرطوم التي ينحدر سكانها من الجنوب، يفسر الدكتور كنجوم ذلك "بغياب الديمقراطية" حيث أن الناس تستغل أي فرصة للتعبير عن رأيها ولو بالعنف.

مستقبل عملية السلام بعد موت قرنق

Flüchtlingskinder in Sudan
مآسي الحرب الأهلية في السودانصورة من: AP

كان العقيد الدكتور جون قرنق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، صاحب الشخصية الكاريزماتية التي حظيت بسمعة واحترام على الصعيدين الإقليمي والدولي، كان صمام أمان الوحدة السودانية، يتحكم بشكل كبير بحاضر وبمستقبل السودان ويمسك بيديه بزمام المبادرة في حل المعادلة السودانية الصعبة والمستعصية على الفهم سواء في إطارها المحلي المتفجر هنا وهناك ومن وقت لأخر أو في إطارها الإفريقي المليء بالتناقضات والحروب. وقد وضع قرنق الحكومات السودانية المركزية على مدى عقود أمام تحد صعب. فهذه الحكومات لم يكن أمامها إلا أحد الخيارين: إما الحرب وإخضاع الجنوبيين لها بالقوة، وإما السلام العادل القائم على اساس المساواه في الحقوق والواجبات. وقد جربت الحكومات المركزية المتعاقبة الخيار الأول مرارا وفشلت ولجأت إلى الخيار الثاني على سبيل المراوغة ليس إلا وأيضا فشلت. وتأتي عملية السلام الأخيرة، لتشكل فرصة تاريخية لخروج الشعب السوداني من مأزق تاريخي. لكن بموت قرنق تكون هناك أكثر من علامة استفهام حول مستقبل عملية السلام في السودان، فالحكومة السودانية وتحت ضغط داخلي ودولي كانت قد اضطرت للقبول باتفاق السلام، وحركة تحرير السودان ومعها فصائل الجنوب قبلت به تحت قيادة قرنق وبفضل حنكته ونفوذه، وهي قد تعتبر نفسها الان في حل من هذا الاتفاق، رغم تأكيدها الرسمي على الاستمرار في تنفيذ عملية السلام.

Flüchtlinge in Darfur Sudan
معسكرات اللجوء إحدى تبعات الحرب الأهليةصورة من: AP

وبينما يعرب الدكتور عز الدين بخيت عن مخاوفه من أن يتعرض مستقبل السلام والوحدة في السودان لانتكاسة، يبدو الدكتور كنجوم على العكس من ذلك متفائلا بمستقبل السلام والوحدة وبأن كل شيء سيسير كما خطط له. ويبرر كنجوم تفاؤله هذا بأن حركة تحرير السودان "جادة في قضية الوحدة وتدرك تماما أهمية الوحدة لأسباب اقتصادية وسياسية تفرضها طبيعة الأمر الواقع في الجنوب." لذلك يعتقد أن الوحدة ستستمر رغم غياب قرنق الذي كان، حسب وصفه له " شخصية قومية سودانية، وكاريزماتية محبوبة من كل السودانيين، وكان قبل هذا وذاك شخصية جوهرية في عملية السلام". من ناحيته لا يرى السيد البخاري أي خطر على مستقبل عملية السلام في السودان، عازيا ذلك إلى أن قيادة الحركة الشعبية قادرة على تجاوز المحنة وقد أعلنت المضي قدما في عملية السلام، حسب تعبيره.

في ظل الأمل في أن يتجاوز السودان محنته ويستعيد عافيته ويستريح من المحن والكوارث التي ألمّت به على مدى عقود من الزمن، يبقى التخوف مطروحا من الأيام القادمة مما قد تحمله من مفاجآت.

تقرير: د. عبده جميل المخلافي ـ دويتشه فيله