عندما تفضح الصورة السياسيين..وتستفزهم!
١١ أغسطس ٢٠١١
الصورة عين الواقع وقلب الحقيقة. تكافئ من يتخطى إلى ما وراء الخط الأحمر، إلى تلك اللحظة التي قد تذوب، فتتلاشى، ولا يبقى منها شيء فتلتقطها عدسة كاميرا مصور محترف أراد أن يؤرخ موقفاً مضحكاً أو مبكياً، موجعاً أو مسلياً، فيبقى عالقا في الأذهان. هكذا يرى المصوران اللبنانيان علي علوش (صحيفة السفير اللبنانية) وعلي سيف الدين (صحيفة الخليج الإماراتية) أهمية الصورة في التقاطها للمواقف الغريبة المتحركة والساخرة إلى حد الوجع أحياناً. والأهم بنظرهما الصورة البعيدة عن الكلاسيكية والتي تحمل في معانيها انتقاداً ما لطرف سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي.
كلاهما يطمح إلى شيء من الخبث في التقاط الصورة. فعقل المصور الكلاسيكي برأيهما في كثير من الأحيان يقمع الصورة ويضعها في إطار جامد لا يحرك فكرة أو قدرة على التغيير في عين من يراها، فيما هما يريدان للصورة أن تكون بطلة الصفحة فتنافس كم الصور الهائل الذي يبث في عصر الإعلام المرئي وثورة الإنترنت. عندها فقط، تكون المولودة الجديدة صورة مميزة عن مثيلاتها، ميزة قد لا تمر مرور الكرام، فتتسبب أحياناً بتهديد حياة المصور الصحفي، تأتي على شكل ضغينة لسياسي ما لا يسامح، فيهدد ويشتم في أفضل الأحوال، أو يكون الحساب أذية وضربا مبرحا ليصبح لمصور صحفي لم يقم باختراع الصورة وتفاصيلها وإنما فقط بالتقاطها.
الصورة لا تداري السياسي
ويوافق المصوران على مبدأ أن "المصور الصحافي لا يمكن أن يتعاطف مع أي سياسي"، خاصة في ظل الطبقة السياسية الموجودة في لبنان ويوضحان: "قضيتنا الأساسية هي الإنسان".
الحدث الأبرز والأعنف في مسيرة علي سيف الدين المهنية كان في العام 1981، حينما التقط صورة لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية "أبو عمار" وهو نائم على كرسيه في أحد المحافل السياسية. "ما أن لمع ضوء الكاميرا في وجه أبو عمار، حتى فتح عينيه بنظرة يملؤها الغضب". فصرخ بوجهه عالياً باللهجة المصرية "بتهزّر". لم تكد تمر ثوان معدودة حتى وجد سيف الدين نفسه محاطاً بعناصر الحراسة "شدوني إلى ما وراء الستارة وضربوني بأحذيتهم ورشاشاتهم. كسرّوا كاميرتي وأخذوا أفلام الصور" يروي تفاصيل تلك الحادثة المؤلمة التي ما زالت محفورة في رأسه وإن اختفت أثارها من على جسمه وكأنها حصلت معه اليوم وليس منذ أكثر من ثلاثين عاماً. ويضيف: "ربما لم أكن موجودا اليوم لو لم يرأف بي بعض السياسيين اللبنانيين ويتوسطوا لإطلاق سراحي". منذ ذلك الحين لم تطأ قدمي علي سيف الدين وكاميرته أي مكان يتواجد فيه القائد "أبو عمار".
هذه الحادثة بسوداويتها لم تعِق أسلوب المصور الصحفي في التقاط صوره، فالحادثة "استفزتني أكثر للذهاب إلى ما وراء الخط الأحمر الذي يرسمه السياسيون لنا"، على حد قوله. لذا في فترة التسعينيات وفي ظل الصراع السياسي والاقتصادي، لاحق بكاميرته رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري الذي اغتيل في عام 2005 ورئيس المجلس النيابي نبيه بري. صور أرادها قاسية واستفزازية، فكانت صورة للرئيس بري تبرز عينيه وبلعومه ولسانه في إحدى المواقف التي كان غاضبا فيها. وصورة أخرى للرئيس الحريري وهو يبعد يديه عن تقبيل الناس. الأولى أراد فيها أن يبرز عشوائية السياسيين في تعاطيهم مع الأمور، مما استدعى تهديدا كلاميا وتأنيبا وعتابا تعرض لهم المصور، فيما الثانية (التي تنشر للمرة الأولى في موقع دويتشه فيله) أراد فيها أن يظهر حب اللبنانيين وتوقهم إلى تأليه الزعيم السياسي.
استفزاز للواقع وبحث عن التغيير
يسأل علي سيف الدين "كيف تستطيع الصورة أن تعبر عن واقعنا المعاش إذا لم يوجد فيها معنى؟" فالمصور الصحفي برأيه يجب ألا يكتفي بصور عادية روتينية، والصورة بدلالاتها الحسية والرمزية يجب أن تعبر عن المجتمع في عشوائيته وضياعه وفراغه.
حينما عمل علي علوش في جريدة "السفير" في أول مشواره المهني، أحس بكلاسيكية ما تطغى على أسلوب عمله: "أحسست أني التقط صورا لوكالات أنباء رسمية". وسرعان ما تغير الأمر عندما قررت الصحيفة أن تتبع أسلوب جديد يختلف عن السائد، مما ساعد في إعطائه مجالا أكبر للتعبير من خلال عدسة كاميرته. كذلك الأمر للمصور علي سيف الدين الذي يعتبر أنه عمل في عدة صحف عربية ولبنانية ومنها صحيفتي "القدس برس" و"نداء الوطن"، كلها أعطته حيزا للحرية والخروج عن المألوف من خلال صوره. "هذا هو ما يجعل العمل الصحفي ناجح وفعال، وإلا فإن الوسيلة الإعلامية تكون ملتزمة بأدبيات لا طعم لها ولا لون" يقول سيف الدين.
لذا، جاءت الصورة الأولى تحمل في طياتها ثورة على ما هو سائد آنذاك، فالتقطت عدسة كاميرا علي علوش صورة لرئيس هنغاريا أثناء زيارته إلى لبنان وهو يضع يده في أنفه في إحدى المؤتمرات الصحفية التي عقدها آنذاك. وحين نشرت الصورة في الجريدة، أحدثت ضجة كبيرة. "كانت المرة الأولى التي أتلقى فيها التهاني على جرأتي في التصوير" يقول علي علوش مستعيداً تلك اللحظة الفرحة في لقطته الناجحة.
صورة كوميدية أخرى أظهرت الوزير حسين الحاج حسن وهو يربط شريط حذائه قبيل دخوله إلى المجلس النيابي. فاستدعت الصورة برمزيتها العفوية مطالبة السياسي للمصور بالاعتذار. "لم أعتذر" يقول علي حازماً، "على العكس، الموقف استفزني لألتقط صور أخرى لسياسيين فيها نوع من الكوميديا والاستفزاز".
.. والصورة تؤنسن السياسي
كيف يكون السياسي إنسانا عاديا؟ يخرج من تلك الفقاعة التي ترسم له بأنه فوق البشر ويحتل مرتبة أعلى منهم. الجواب في صورة لوزير الخارجية اللبناني الأسبق فارس بويز وهو يأكل قطعة لحم. صورة التقطها علي سيف الدين أراد فيها إظهار السياسيين بعيدا عن شاشات التلفزة كما هم، أناسا بسطاء يشبهون أي مواطن. كما التقط سيف الدين صورة للرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي يقوم فيها الأول بترتيب ربطة عنق الثاني فاعتبرها البعض يومها أنها إشارة إلى تدخل بري في سياسة ميقاتي.
لكن ليس لدى جميع السياسيين خطوط حمراء، وعدسة الكاميرا لا تخيف البعض القليل منهم. فعلوش يتذكر موقفا فريدا من نوعه جرى مع الرئيس رفيق الحريري خلال فترة التسعينيات عندما كان يهم بالتقاط صورة له، فهاجمه مرافقوه محاولين إبعاد عدسة الكاميرا. لكن الرئيس الحريري تصرف بحكمة وتواضع يفتقدهما معظم السياسيين على حد رأيه، فوبخهم قائلا "هل تعتبروني زعيم مافيا؟" ابتعد المرافقون، وسمح الرئيس الحريري للمصور بالتقاط عددا من الصور له. ومنذ ذلك الحين، بات الرئيس الحريري من المعلمين الأوائل في مسيرة علي علوش المهنية: "أعتبره من أول أساتذتي في التصوير" يقول فخورا بذلك الموقف. قبل استشهاد الحريري بفترة بسيطة، التقط صورة له في المجلس النيابي وهو يرفع رأسه للخلف على كرسيه ومتأملا في الفراغ. الهدف من الصورة برأي علي علوش كان تسليط الضوء على الهموم السياسية التي كان يعيشها الحريري آنذاك. رفضت الجريدة حينها نشر الصورة لاعتبارات سياسية، ولكنها فازت بعد ذلك بـ"جائزة الصحافة العربية للتصوير الفوتوغرافي".
"المواطن أيضا جلاد المصور الصحفي"، هذا ما يتوافق عليه المصوران معا. ففي الأحداث الأمنية التي تعرض لها لبنان بعد عام 2005 وقبلها خلال الحرب الأهلية اللبنانية، تعرض المصوران الصحفيان لاعتداءات كثيرة ومحاولات تكسير كاميراتهم منعا لتصوير أي مشهد يؤرخ الأحداث العنيفة والدموية. وفي كثير من الأحيان يمنع المصورون من دخول منطقة أو يسمح لهم بدخول أخرى بحسب اسمهم على الهوية، أو الطائفة التي ينتمون إليها أو الوسيلة الإعلامية التي يعملون لها. أدوات قمع وترهيب متعددة ترى في المصور الصحفي "بعبعاً أو وحشاً كاسراً". وعلى الرغم منذ ذلك، لم يعودا يوما من مهمة تصوير صحفية بلا صورة، فالمصور برأيهما "يكون فاشلاً" إذا عاد بكاميرا فارغة من الصور. في هذه اللحظات القاسية، لا يخاف المصوران على حياتهما، فهمهما الأساسي التقاط صورة ناجحة ويختمان بالقول: "الخوف قد يمتلكنا إذا صعدنا إلى مكان عال، أكثر مما يمتلكنا ونحن نلتقط الصور في ساحة المعركة“.
دارين العمري
مراجعة: سمر كرم