صراع الحضارات" في أجهزة الإعلام: صخب وتهريج ضد مسلمي أوروبا
١٧ أبريل ٢٠٠٧ليس من الصحيح أن نزعم بأن الملف الخاص بصراع الحضارات لا يشهد سوى تغطية سلبية على صفحات الإعلام. فمن الأنباء "الإيجابية" بناء على معلومات وصلت في الأسبوع الماضي الإعداد لطبعتين ستصدران في آن واحد بالعربية والعبرية تحت عنوان "استريكس في بلاد الشرق"، حيث يرد في الترجمتين العربية والعبرية كالمعتاد في الطبعات الأوروبية الحديث مطولا عن ذبح وأكل قطعان بكاملها من الخنازير البرية علما بأن أكل لحم الخنزير محرم عند المسلمين واليهود على حد سواء. بررت دار نشر الطبعتين هذا الأمر بأن الغرض من وراء ذلك "مد الجسور" مضيفة على نحو "جدي" بأنها تريد من خلال ذلك المساهمة في تعزيز "التفاهم بين الشعوب".
هلال على بوابة براندنبورغ
لا يقتصر هذا التصرف الأحمق على أستريكس من بلاد الغال فحسب (تعبير يرمز إلى فرنسا والغرب في الماضي) بل إن الكثيرين أيضا يسيرون في ذات هذا الخط. فكلما تعلق الأمر بملف الاصطدام مع الدين الإسلامي "الحافل بالخطر"، بات تجميد العقل والمنطق بحكم الأمر الروتيني الاعتيادي.
على سبيل المثال قدمت لنا مجلة "دير شبيغيل" الإخبارية في عددها الصادر يوم الاثنين في الأسبوع الماضي "زهرة" جديدة مثمرة من هذا النوع. فقد احتل غلافها عنوان حافل بالإثارة هو "ألمانيا ... مكة الجديدة - تزايد خفي مستتر في التيارات الإسلاموية". رسمت على صفحة الغلاف بوابة براندنبورغ في العاصمة برلين وعليها صورة هلال يوحي بالخطر النابع من الأتراك (المسلمين). نقول هنا للعلم : تبلغ نسبة المسلمين أربعة بالمائة فقط من مجموع سكان ألمانيا.
حكم قضائي غريب
سبب هذه الظواهر حكم غريب الأطوار صدر عن قاضية في شؤون العائلة تعمل في إحدى محاكم مدينة فرانكفورت رفضت فيه دعوى مقدمة من سيدة ألمانية تنحدر من أصل مغربي طالبت فيها بالطلاق من زوجها قبل الفترة القانونية المحددة لذلك. حجة مقدمة هذا الطلب أنها لا تريد الالتزام بسنة الانفصال الإجبارية بالنظر إلى أنها تعرضت للضرب من قبل زوجها.
أشارت القاضية في الحكم الصادر عنها إلى "حق القصاص بالضرب" عند الرجال وفقا للقرآن، مشيرة إلى أن الاعتداء الذي تعرضت له الزوجة لا يشكل "عبئا لا يمكن تحمله" أي أن الحال لا يحتم ضرورة الحكم بالطلاق قبل الفترة القانونية المحددة لذلك. نتيجة للحكم فإن المرأة لن تستطيع الطلاق من زوجها قبل شهر مايو (أيار) المقبل.
هذا الحكم ينم عن الحماقة ويجعل البدن يقشعر منه. أما ردة الفعل عليه فكانت بمثابة الإجماع التام حيث شجبه كافة السياسيين بغض النظر عن كونهم يساريين أو يمينيين وارتفعت أصوات الاحتجاج والاعتراض لدى كل الجرائد والمجلات. وقد سحب ملف هذه القضية من اختصاص القاضية المشار إليها وأجبرت على أخذ إجازة راحة واستجمام قصاصا لغبائها.
تطبيق الشريعة في ألمانيا!
قراءة هذه الحالة كانت جلية واضحة إلى أكبر حد ، وهي أن الحقوق المتعلقة بالحرية والمساواة المذكورة في القانون الأساسي الألماني سارية المفعول على الجميع بغض النظر عن تصوراتهم الدينية أو التقليدية النابعة من مفهوم الشرف. بمعنى أن التعامل مع هذه القضية ينفي مقولة وجود "تزايد خفي مستتر للتيارات الإسلاموية" في ألمانيا.
لا ينبغي علينا أن ننسى في هذا السياق بأن هذه المرأة المسلمة لم تكتف بطرد "الباشا" الذي ضربها من الشقة فحسب بل رفعت عليه دعوى أيضا. كما أنها أتقنت بعد صدور هذا الحكم من تلك القاضية الغريبة التفكير التعامل مع أجهزة الإعلام. ألا يعني ذلك بأن عملية اندماج المنحدرين من أصول أجنبية تسير في خطى سليمة جيدة؟
العنوان الثاني للعدد المذكور في مجلة "دير شبيغيل" الإخبارية يعكس قدرا رهيبا من الإسراف في إشاعة الخوف وهو: "هل بدئ بتطبيق الشريعة لدينا في ألمانيا؟". لكن هذا العنوان يعكس في آن واحد أحد أعراض تيار واسع الانتشار لدينا فحواه أن المسلم في حد ذاته يشكل خطرا أكيدا. هنا يطيب للكثيرين إثارة مثل مشاعر الخوف هذه.
يساريون في مواقع اليمين
نظرا لحالة المواجهة القائمة على نطاق دولي بين حضارتي "الإسلام" و"الغرب" بالمفهوم التعميمي ونظرا لوجود جاليات عرقية من المهاجرين تعيش في المدن الكبرى بمعزل عن أغلبية السكان وعلى ضوء وجود عقلية "الباشا" لدى بعض الأناضوليين وعصابات الشباب التركية ومظهر ارتداء المسلمات للحجاب فإن البعض هنا حتى داخل أوساط ذوي الثقافة الرفيعة بدأ يشعر بأن "الغرب المسيحي" بات عرضة للخطر. كما أن بعض الذين تبنوا في الماضي فكر اليسار الليبرالي يوحون اليوم في خطابهم الثقافي في بعض الأحيان كما لو أنهم أصبحوا أعضاء في الحزب الوطني الديموقراطي (اليميني).
دعوات لتحريم الإسلام في أوروبا
توجد منذ فترة طويلة جبهة "تضامنية" تبث عبر شبكة الإنترنت حملات ضد "تزايد التيارات الإسلاموية". تحذر الجبهة من مغبة ظهور "أورابيا" أي من امتزاج أوروبا ببلاد العرب وتطالب بلغة رنانة مثيرة بتقوية أعمدة الدولة إلى أكبر حد رافعة في هذا المجال شعارات مثل "ينبغي تحريم الإسلام في أوروبا" كما أنها تتناقش حول "مخاطر وتداعيات الدين المحمدي" وتستخدم عبارات تحتوى على القذف بتعاليم الصلاة عند المسلمين أو تصم المهاجرين بأنهم "من أنماط القمامة".
ليست مصادر تلك الحملات على الإطلاق حلقات إنترنت داكنة مشكوك بأمرها أو تهيمن عليها مجموعات من حالقي الرؤوس "سكين هيدز" والمدمنين على تعاطي الخمور المقيمين في مناطق ريفية نائية بل إنها ترد في تعقيبات منشورة في صفحات إليكترونية معروفة مثل Politically Incorrect يبلغ عدد مستخدميها يوميا في بعض الحالات 25000 شخص.
المشرفون على هذه الصفحات ليسوا من النازيين البسطاء ذوي التفكير المحدود ، وهذا ما يلاحظه المرء عندما يطلع على البرامج والأهداف التي تتبناها هذه المجلة الإليكترونية والتي تتضمن ثلاثة خطوط رئيسية : "نقف بجانب الولايات المتحدة وبجانب إسرائيل وضد نشر التيارات الإسلاموية في أوروبا".
إنشاء حزب مناوئ للإسلام
وقع مؤخرا حدث كان مدعاة للفرح بالنسبة لهؤلاء الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم حصنا لإنقاذ الغرب المسيحي. جاء في تلك الصفحات بأنه قد تقرر "أخيرا" إنشاء "حزب مناوئ للإسلام". فقد قرر الكاتب السياسي أودو أولفكوتي المشكوك بخلفياته ونواياه والذي عمل في السابق "خبيرا في شؤون المخابرات" لدى جريدة "فرانكفورتر ألغماينه" وألف كتابا تحت عنوان "الجهاد داخل أوروبا" تحويل اتحاده المسمى "باكس أوروبا" (سلام أوروبا) إلى حزب سياسي سيشارك في الانتخابات المقبلة لبرلمان ولاية هامبورغ.
كثيرا ما عمد أولفكوتي إلى التنديد بكون تعدد الزواج قد أصبح أمرا مسموحا به في ألمانيا. أما خلفية ذلك فهي أن محكمة إدارية من الدرجة الثانية أصدرت حكما يجيز للاجئ قدم إلى ألمانيا هربا بصحبة زوجتيه بالتأمين على كلاهما لدى صندوق الضمان الاجتماعي.
تحالفات غريبة ضد المسلمين
الأمر الغريب والمثير للضحك هنا أن هذه الأوساط تستبدل عبارة "الأجنبي" بمصطلح "المسلم" الأمر الذي يضفي على الحجج المستخدمة صفة تحديثية جديدة. ففيما كان غلاة النزعة القومية الألمانية القدماء يحملون في نفوسهم نزعة معادية للولايات المتحدة الأمريكية فإن دعاة تيار الخوف المرضي حيال الإسلام يعتقدون على عكس ذلك بأنهم يقفون مع الولايات المتحدة في خندق مشترك أي في جبهة "التيار الليبرالي" المناوئ لـ "التيار الاستبدادي" الإسلامي.
وقد حلت الآن محل نزعة العداء للسامية التي كانت قائمة تقليديا بصورة دائمة في أوساط اليمين نزعة تضامن مطلق مع إسرائيل ، ولا عجب في ذلك بالنظر لكون إسرائيل في مفهومهم "محاصرة" بمعنى الكلمة من المسلمين. هذه الخلفية تفتح المجال على مصراعيه أمام ظهور تحالفات غريبة مدهشة.
انقذوا الغرب المسيحي!
هينريك برودر كاتب يميل إلى أسلوب التحامل المسرف في اللغط ، فمن مقولاته على سبيل المثال العبارة التالية "إن تكريس المساواة في المعاملة بين المسيحيين واليهود من جهة وبين الإسلام من جهة أخرى يعادل مطابقة الشرطة بالمجرمين". وقد التقى برودر في جولة قام بها مؤخرا إلى فيينا بـ "الأصولي" المسيحي اندرياس لاون من مدينة سالسبورغ الذي يطالب بـ "هجرة المسيحيين إلى البلاد" وإلا "حول المسلمون أوروبا إلى بلاد إسلامية بكل هذا المعنى".
كما أن عضو حزب الأحرار اليميني النمساوي هاينز كريستيان شتراخي المشهور برعايته لأنماط الرياضة "الحربية" استخدم مؤخرا في سياق تقديمه لاتحاده الجديد المسمى "أنقذوا الغرب المسيحي" والمعادي للإسلام شبكة بوردر الإعلامية المسماة "محور الخير".
قرأ شتراخي من الموقع الإعلامي التابع للكاتب برودر مقالته التي تضمنت عبارات مثل " ما الذي طرأ على أحوال أوروبا والغرب الحر؟ في بريطانيا سحبت من البنوك صناديق التوفير الحاملة أشكال الخنزير بحجة أن البنوك لا تريد المساس بأحاسيس المسلمين الذين يعتبرون هذا الحيوان مفتقدا إلى النقاء".
أكاذيب المتطرفين
الأمر الغريب هنا هو أن هذه العبارة مختلقة من أولها إلى آخرها. فمصرف هاليفاكس البريطاني وهو المعني من هذه العبارة صرح بقوله "إننا لم نسحب صناديق التوفير على شكل الخنزير من أفرعنا. وكل ما في الأمر هو أننا لم نعد نستعملها منذ سنوات عديدة".
على هامش هذه القضية المطروحة في الساحة هناك ظاهرة محزنة تتعلق باحتدام خلاف يزداد حدة داخل أوساط الجالية اليهودية في أوروبا بين اليهود ذوي النزعة اليسارية الليبرالية من جهة وبين التيار اليميني واليميني المتطرف لليهود من جهة أخرى. هنا يتم بكل بساطة وصف اليهود الرافضين للمساهمة في عمليات القذف والمساس بالمسلمين Moslem bashing من قبل خصومهم الداخليين على أنهم من أنصار معاداة السامية رغم انتمائهم للديانة اليهودية.
مخاوف مرضية تجاه المهاجرين
لكن هناك ظواهر مرحة لهذه القضية منها أن حماة الغرب المسيحي يؤمنون بصورة جدية بأنهم يقفون من خلال كفاحهم ضد "التعددية الثقافية" في جبهة ليبرالية مطابقة للأفكار التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية. لكن الواقع هو أنه حتى في أمريكا المحكومة اليوم من بوش ليس ثمة من يريد اعتبار نفسه صديقا لمثل هذه العناصر المشكوك بأمرها وسمعتها.
فقد حذر مؤخرا نائب وكيل الوزارة في الخارجية الأمريكية دانييل فريد من تلك الظاهرة بقوله " تخيم على أوروبا الغربية أجواء غريبة الأطوار حيث تتضح هناك ملامح مخاوف ذات طابع مرضي حيال المهاجرين بالإدعاء بأنهم لا يتقبلون قيم الغرب ويشكلون تهديدا لنمط حياة الناس فيه". تريد الولايات المتحدة مقاومة مثل هذه التوجهات. أما المعجبون بأمريكا داخل دوائر الصخب والتهريج السياسي هذه فقد شعروا بصدمة كبيرة حيال هذه الأنباء.
روبيرت ميزيك
حقوق الطبع محفوظة قنطرة 2006