تحليل: الغاز المصري وفرص إنقاذ لبنان من الظلمة
١٢ سبتمبر ٢٠٢١عندما كانت الطائرة تحلق مساء فوق بيروت باتجاه الهبوط على مدرج مطارها في الضاحية الجنوبية اعتدت خلال سفراتي المتتالية إليها على التمتع بأضوائها المتلألئة والمتراقصة بمحاذاة شواطئها المترامية. غير أن سفرتي الأخيرة قبل بضعة أسابيع اختلفت عن سابقاتها، ففي هذه المرة بدت العاصمة اللبنانية مظلمة إلا من أنوار خافتة ومتباعدة بدت الأبنية العالية كأبراج ضخمة مهجورة. وخلال مرور السيارة بي من المطار إلى منطقة الدورة شمالا كانت بيروت التي تعودت على السهر مقفلة ومظلمة.
حتى مولدات القطاع الخاص توقفت
تعكس هذه الصورة الذي لا يمكن للمرء تصورها في عاصمة بلد كان يطلق عليه في سبعينات القرن الماضي "سويسرا الشرق" الانقطاع اليومي لكهرباء مؤسسات الدولة لفترة وصلت مؤخرا إلى 22 ساعة. أما كهرباء القطاع الخاص التي كانت تعوّض قسما كبيرا من النقص، فقد توقف قسم كبير منها عن العمل لعدم توفر الديزل اللازم لتشغيل المولدات الصغيرة المنتشرة في المدن اللبنانية بشكل عشوائي منذ أيام الحرب الأهلية. ويمكن القول إن انقطاع الكهرباء بهذا الشكل يشكل أسوأ فصول الأزمة الاقتصادية المتعددة الأوجه التي يعيشها لبنان حاليا بشكل غير مسبوق في تاريخه المعاصر.
مشكلة تتفاقم منذ 30 سنة
تعود مشكلة الكهرباء في لبنان إلى أيام الحرب الأهلية اللبنانية التي ألحقت أضرارا كبيرة بهذا القطاع الحيوي. ورغم تخصيص نحو 30 مليار دولار خلال العقود الثلاثة الماضية لإصلاح هذا القطاع وتحديثه فقد بقي غير قادر على تلبية الطلب المحلي سوى بنسبة 50 بالمائة في أحسس الأحوال. ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى الفساد والنهب المستمر لموارده القطاع العام من قبل النخب السياسية الطائفية التي تحكم لبنان بالمحاصصة والامتيازات الخاصة بها. غير أن الوضع تفاقم أكثر فأكثر في أغسطس/ آب الماضي عندما أعلن مصرف لبنان المركزي أنه لم يعد بإمكانه تمويل واردات الديزل والفيول والغاز اللازمة لمحطات التوليد والمولدات بأسعار الصرف المدعومة.
كيف تبدو خسائر الاقتصاد اللبناني؟
وقد أدى الوضع الجديد في الكثير من الحالات إلى غياب الحد الأدنى من الطاقة الكهربائية اللازمة للمؤسسات الحيوية كالمستشفيات والمستوصفات والأفران ومراكز الاتصال. كما حل الشلل بعدد كبير من المؤسسات الزراعية والصناعية والخدمية بشكل فاقم أزمة الاقتصاد اللبناني الذي يعاني من أسوأ مديونية في تاريخه ومن تبعات جائحة كورونا الكارثية. وعلى ضوء ذلك فقد لبنان منذ خريف 2019 أكثر من 32 بالمائة من ناتجه المحلي الإجمالي حسب مؤسسة التجارة والاستثمار الألمانية. وخلال العامين الماضيين ارتفعت نسبة اللبنانيين الذي يعانون الفقر المتعدد الأبعاد من 42 إلى 82 بالمائة بين اللبنانيين حسب لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا/ الإسكوا. ورغم أن تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة بعد سنة من الأخذ والردبرئاسة نجيب ميقاتي قبل أيام أنعش بعض الآمال بالتوصل إلى اتفاقمع صندوق النقد الدولي لتخفيف وقع الأزمة المالية، فإن الاقتصاد اللبناني سيحتاج في حال حصول التوافقات السياسية اللازمة إلى أكثر من عقد للعودة بناتجه المحلي إلى المستوى الذي كان عليه قبل سنتين من الآن.
تحرك عربي وخطة مفاجئة لتحسين الوضع!
ومع انهيار خدمات الكهرباء في ظل أزمة وقود خانقة تشمل البنزين والديزل والفيول والغاز حدث تحرك عربي مفاجئ لوقف هذا الانهيار وتحسين وضع الكهرباء خلال بضعة أشهر. وجاء هذا التحرك بمباركة أمريكية غير متوقعة بعد إعلان الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله أن حزبه سيجلب المشتقات النفطية من إيران للتخفيف من حدة الأزمة.
وفي موقف يبدو كرد على كلام نصر الله أعلنت الرئاسة اللبنانية أن السفيرة الأمريكية في لبنان دوروثي شيا اتصلت بالرئيس اللبناني ميشيل عون وأبلغته عن خطة لمساعدة لبنان على استجرار الطاقة الكهربائية من الأردن عبر سوريا بالاعتماد على الغاز المصري.
وقد أفضى التحرك الأردني- المصري بضوء أخضر أمريكي إلى اتفاق لبنان والأردن ومصر وسوريا إلى دعم تزويد لبنان بالغاز المصري لتغذية محطة توليد كهرباء دير عمار بطاقة تصل إلى 450 ميغاوات. كما اتفق وزراء الطاقة في الدول المذكورة على تزويد الأردن بمزيد من الغاز لتوليد كهرباء إضافية يتم جرها إلى لبنان عبر الشبكة السورية. لكن السؤال إلى أي مدى ستنجح هذه الخطة؟
دوافع سياسية قوية لنجاح الخطة المفاجئة
هناك دوافع سياسة قوية لنجاح الخطة، لاسيما وأن واشنطن وحلفاءها العرب يريدون منع لبنان من الاعتماد على مصادر الطاقة الإيرانية والإدمان عليها بهدف الحد من نفوذ طهران السياسي المتصاعد فيه. ويطال هذا الهدف سوريا التي لا تحصل حاليا سوى على النفط الإيراني بعد الإعلان عن استفادتها من الغاز المصري لقاء مرروه عبر أراضيها لدعم قطاع الكهرباء الذي لا يسد في الوقت الحاضر سوى خمس الطلب الداخلي.
وسبق لطهران أن عرضت أكثر من مرة تزويد سوريا ولبنان بالكهرباء الإيرانية عبر مشروع ربط كهربائي جيوسياسي يعبر الأراضي العراقية إلى الحدود السورية فدمشق وبيروت.
ومن الناحية التقنية فإن خط الغاز العربي القادم من مصر واللازم لتنفيذ الخطة جاهز حتى طرابلس اللبنانية منذ أوائل الألفية الحالية ويمكن تشغيله خلال أسابيع . أما ربط الشبكة الكهربائية الأردنية باللبنانية عبر سوريا فيحتاج إلى فترة تتراوح بين شهرين إلى أربعة أشهر حسب وزير الكهرباء السوري غسان الزامل بسبب الدمار الذي لحق بالشبكة السورية وخطوط التوتر العالي بطول حوالي 90 كيلومتر تمتد من جنوب دمشق وحتى الحدود الأردنية.
هل تتجاوز الحكومة الجديدة فشل سابقاتها؟
تذهب التقديرات إلى أن لبنان يحتاج يوميا إلى 3500 ميغاوات لا ينتج منها في الوقت الحاضر سوى النذر اليسير. وحتى لو تم تشغيل محطة دير عمار بالغاز المصري واستجرار الكهرباء من الأردن فإن العجز سيبقى بحدود 10 إلى 12 ساعة يوميا. ومما يعنيه ذلك حاجة لبنان إلى بناء محطات توليد جديدة بطاقة يومية لا تقل عن 2000 ميغاوات لسد الطلب الحالي حسب التقديرات الحالية.
رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي أعلن بعد تشكيل حكومته أن من أولى مهامه استئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للتوصل إلى حلول للمديونية ودفع عجلة الاقتصاد اللبناني إلى الأمام، السؤال المطروح هنا، إلى أي مدى سيضمن أي اتفاق مع صندوق النقد تمويل مشاريع الكهرباء الجديدة في ظل إصرار الصندوق على خصخصتها، بينما ترفض النخبة السياسية المهيمنة والمستفيدة من الوضع القائم ذلك.
ابراهيم محمد