العراق والمغرب: الاستفادة من التجربة الألمانية في التعامل مع "الماضي الأليم"
١٧ يناير ٢٠١٠ربما لم يكن يخطر للمسؤولين الألمان، إثر سقوط جدار برلين وانهيار دولة ألمانيا الشرقية سابقا، أن عملية إعادة توحيد بلادهم لن تكتمل دون التصدي لما عرف بـ"الماضي الأليم" إبان الحكم الشيوعي في الشطر الشرقي. وربما لم يخطر لهم، أيضا بأن اقتحام جموع غاضبة من المواطنين، قبل عشرين عاما، للمقر الرئيسي لوزارة الأمن السابقة في ألمانيا الشرقية والمعروفة بـ"الشتازي"، ستكون نقطة البداية لعملية طويلة من معالجة تركة ألمانيا الشرقية. وبالفعل دفع اقتحام المواطنين لمبنى الشتازي بهدف حماية الوثائق فيها، الحكومة الألمانية إلى تأسيس هيئة خاصة للتعامل مع هذا الإرث الأمني والسياسي الثقيل، تعرف اليوم باسم رئيستها ماريانا بيرتلر.
وقد كشفت دراسة وثائق تلك الفترة أن "النظام الذي أسس شرعيته بعد الحرب العالمية الثانية على أنه دولة السلام والعدالة الاجتماعية"، حسب تعبير نبيل يعقوب، رئيس فرع المنظمة العربية لحقوق الإنسان في ألمانيا، في حوار مع دويتشه فيله، كان في جوهره "نظاما دكتاتوريا قمعيا" يستند على شبكة أمنية رهيبة. وكان الحزب الاشتراكي الموحد/ الشيوعي الحاكم في تلك الفترة، يقوم بالتعبئة الإيديولوجية، بينما تولى جهاز الأمن الشتازي "الجانب القمعي ومحاصرة الحريات الديمقراطية". ليس هذا فحسب، بل تمكن هذا الجهاز من تجنيد أعداد هائلة من المثقفين والسياسيين لصالحه في ألمانيا الغربية أيضا.
إصلاح الذاكرة العراقية: التعلم من الماضي الألماني
وقد ألهمت التجربة الألمانية في معالجة "الماضي الدكتاتوري" دولا عديدة، مرت بتجارب مماثلة، منها دول عربية. وهناك من يرى "تشابها بيّنا" بين تجربة النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية سابقا وبين فترة حكم البعث للعراق.
وبالفعل قام وفد من "مؤسسة الذاكرة العراقية"، برئاسة مؤسسها كنعان مكية، عام ألفين وأربعة بزيارة إلى ألمانيا؛ وأجرى عدة لقاءات مع بيرتلر ومساعديها للاستفادة من خبراتهم. وحسب الكاتب والصحافي العراقي خالد سليمان، مدير تحرير موقع مؤسسة الذاكرة على الانترنت، فإن "مشروع الذاكرة العراقية أبصر النور على يد مكية قبل سقوط نظام صدام حسين بإحدى عشرة سنة".
ويضيف سليمان، في حوار مع دويتشه فيله، بأن فكرة التأسيس "جاءت إثر زيارة مكية لكردستان العراق واضطلاعه على كميات هائلة من وثائق الأجهزة الأمنية العراقية التي كانت المعارضة قد حصلت عليها أثناء انتفاضة عام 1991شمال وجنوب البلاد". إلا أن عمل المؤسسة لم يحقق نتائج "مرجوة"، حتى بعد سقوط نظام البعث، بسبب شخصية مكية "الإشكالية" و"تأييده العلني والمطلق للغزو الأمريكي للعراق"، حسب منتقديه. إلا أن سليمان يسوق أسبابا أخرى لتعثر عمل مؤسسته كـ"حرق وتشويه كميات كبيرة من الوثائق" إبان "الفوضى العارمة التي عمت العراق بعيد سقوط نظام صدام حسين".
اجتثاث البعث و"تعثر المصالحة العراقية"
ولم يقتصر الأمر في التعامل مع الماضي "الدكتاتوري" في العراق على "مؤسسة الذاكرة" وحدها، بل شكلت هيئتان أخريان لهذا الغرض وهما: "هيئة اجتثاث البعث"، والثانية "لجنة المساءلة والعدالة"، والتي حلت محل الأولى. وبالرغم من الطابع الإشكالي للهيئتين وعدم توصلهما إلى نتائج ملموسة فيما يتعلق بالمصالحة، إلا أن خالد سليمان يدافع، في حواره مع دويتشه فيله عن فكرة إبعاد رموز البعث عن العملية السياسية ويضيف "لم نكن نقصد بالاجتثاث المعنى الذي تم تكريسه في الحياة السياسية العراقية، بل قصدنا اجتثاث الرموز القيادية في حزب البعث" متسائلا "كيف يمكن السماح لشخصيات شاركت في عمليات القتل والإبادة الجماعية، بالترشح للانتخابات التشريعية؟
وبدوره يشدد نبيل يعقوب، رئيس فرع المنظمة العربية لحقوق الإنسان في ألمانيا، على أن المصالحة لا تنجز إلا وفق سيادة "مبدأ المساءلة". ويضيف يعقوب في حواره مع دويتشه فيله "لا بد من مبدأ المساءلة والمحاسبة على الماضي بمقتضى القانون وليس برغبة انتقامية". لكن السجين السياسي السابق وعضو هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب صلاح الوديع يرى أن كلمة اجتثاث تحمل "شحنة عنيفة وبالتالي قد لا تنسجم مع مقاربة أساسها المصالحة وإقامة العدل".
هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب: تجربة عربية مغايرة
ويشيد الوديع بتجربة هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب، التي تناولت الفترة ما بين 1956 و1999، والمعروفة بسنوات الرصاص. وبالرغم من أن الوديع كان من ضحايا تلك الفترة، "التي عرفت مراحل احتقان سياسي كان من نتائجه ارتكاب أجهزة الدولة لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان"، إلا أنه يرى في تأسيس الهيئة "إرادة سياسية وشجاعة للتوجه نحو المستقبل". وقد قامت الهيئة خلال سنتين بدراسة "عشرين ألف طلب للانصاف وجبر الأضرار".
وأنهت الهيئة عملها بتقرير قدمته للملك محمد السادس، على أن يواصل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان "استكمال ما تعذر عليها القيام به بسبب محدودية الزمن". وقد تضمن التقرير "توصيات متعلقة بإجراء إصلاحات ضرورية في الأجهزة الأمنية والقضائية والتشريعية لضمان عدم العودة إلى الوراء وضمان عدم الإفلات من العقاب مستقبلا". وفي الخامس عشر من الشهر الجاري كشف المجلس الاستشاري تقريرا كشف فيه مصير "تسع وأربعين حالة من حالات الاختفاء القسري، مع الإشارة إلى حالات مستعصية كحالة المعارض المعروف المهدي بن بركة".
وبالرغم من الإشادة بعمل الهيئة والمجلس، فيما بعد، فإن عبد الحميد أمين، نائب رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، رأى أن "المجلس لم يفعل شيئا في المسائل الأساسية". وأضاف في تصريح لدويتشه فيله أن منظمته "غير راضية عن إعمال وتنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، خصوصا فيما يتعلق بالإصلاحات الدستورية والمؤسساتية".
الكاتب: أحمد حسو
مراجعة: ابراهيم محمد