التضامن مع المهاجرين.. هل أصبح جريمة في تونس؟
٢٩ نوفمبر ٢٠٢٤وصل الطبيب عبد الله السعيد قبل ثلاثة عقود إلى تونس قادما من دولة تشاد ضمن برنامج تعاون دولي، وسرعان ما وجد طريقه إلى الاندماج في المجتمع التونسي حيث تزوج من تونسية ليؤسس عائلته الصغيرة قبل أن تكتمل حقوقه المدنية بحصوله على الجنسية التونسية في عام 2012.
لكن قصة عبد الله لم تقف عند هذا الحد، إذ نجح الطبيب في أن يكون عنصرا فعالا في المجتمع المدني والعمل الإنساني بتأسيسه جمعية تعنى بأطفال القمر في مدينة مدنين جنوب البلاد، وهي تقدم أيضا من بين أنشطتها الإنسانية المساعدة لأبناء المهاجرين الوافدين من جنوبي الصحراء الذين تقطعت بهم السبل وفقدوا أولياء امورهم.
وعلى الرغم من الحملة المشددة التي قادتها السلطات منذ خطاب الرئيس قيس سعيد حول "مؤامرة" الهجرة المكثفة نحو تونس في شباط/ فبراير 2023، إلا أنه لم يخطر على بال عبد الله ان يكون هدفا للإيقاف والتحقيق بسبب تلك الأنشطة.
وقد أوقفت السلطات إلى جانب عبد الله أربعة نشطاء آخرين في جمعية أطفال القمر وموظفين اثنين في بنك محلي في مدنين. ولم تتضح التهم الموجهة إليهم، ولكن وفق مصادر تحدثت إليها DW عربية فإن التحقيقات تشمل مصادر التمويل والتحويلات الأجنبية التي تلقتها الجمعية، وهي التحقيقات نفسها التي طالت منظمات سابقة ناشطة في مجال الدفاع عن قضايا المهاجرين منذ أكثر من عام.
سردية النظام
علقت "لجنة المتابعة ضد سياسات تجريم التضامن" بدورها بأن "الاحتفاظ برئيس الجمعية يأتي في سياق متواصل لسياسات تجريم التضامن مع المهاجرين والذي نتج عنه توقيفات عديدة وملاحقات لم تتوقف".
وتدور أغلب التهم والشبهات الموجهة للنشطاء، حول عمليات تبييض أموال والإثراء غير المشروع والتآمر على الأمن الداخلي للبلاد ومساعدة مهاجرين على الإقامة بشكل مخالف للقانون.
وإلى جانب عبد الله السعيد تقبع في السجن سعدية مصباح أيضا رئيسة "جمعية منامتي" وشريفة الرياحي رئيسة جمعية "تونس أرض اللجوء" والنشطاء محمد جوعو ومصطفى الجمالي وعبد الرزاق الكريمي. ولم تفض التحقيقات إلى اثبات جرائم أو توجيه تهم نهائية إليهم حتى الآن.
ولكن لماذا عادت الايقافات لتطفو على السطح مجددا؟ في حديثه مع DW عربية، يشير رمضان بن عمر عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وأحد أبرز النشطاء في قضايا الهجرة والدفاع عن حقوق المهاجرين، إلى أن ما يحصل هو "تغذية سردية النظام بشأن الخطط الإجرامية لظاهرة الهجرة إلى تونس عبر توظيف الأمن والقضاء. فمن جهة تخدم الإيقافات والتحقيقات الرواية الرسمية، ومن جهة ثانية فإنها تضع الجمعيات تحت شبهة الفساد المالي". ووفق بن رمضان لا تشذ واقعة إيقاف عبد الله السعيد عن هذه القاعدة.
وينتقد الخبير ما يعتبره تضاربا في سياسات الدولة لجهة أنها "تسوق لخطاب مفاده أنها تعمل بالتعاون مع المجتمع المدني من أجل حل المشكلات التي تحيط بواقع المهاجرين، لكنها على أرض الواقع تفرض قيودا تزيد من محنة المهاجرين حتى تدفعهم إلى المغادرة والعودة الطوعية وتحد بذلك من توافد المزيد غيرهم".
فساد ومؤامرة!
خلال أعوام قليلة استقطبت تونس الآلاف من المهاجرين اليائسين من دول افريقيا جنوب الصحراء الفقيرة، بهدف عبور البحر إلى السواحل الأوروبية. أدى ذلك إلى حدوث قلاقل اجتماعية في عدد من المدن ولا سيما مدينة صفاقس الساحلية التي تمثل نقطة استقطاب أساسية للمهاجرين ومنصة رئيسية لمغادرة قوارب الهجرة.
وتخشى السلطات من أن تؤدي التدفقات المستمرة إلى حالة انفلات واسعة وعجز عن مجابهة أعداد كبيرة وترحيلهم في ظل غياب اتفاقيات ثنائية مع عدة دول افريقية.
ومنذ أن وجه الرئيس سعيد في 2023 اتهامات صريحة لـ"جهات إجرامية" وشبكات تهريب تعمل على إرباك البلاد وتغيير الخارطة الديمغرافية عبر الدفع "بجحافل المهاجرين"، بدأت قوات الأمن بشن حملات لتعقب المقيمين غير النظاميين وجمعيات المجتمع المدني التي تقدم لهم المساعدة. وقال بن عمر لـDW عربية: إن الأمر كان أشبه بحملة تحريضية منظمة مهدت لاحقا للإيقافات.
وكان من نتائج ذلك سياسيا أن دعا النائب في البرلمان عن ولاية صفاقس طارق مهدي إلى "ضرورة تغيير قانون إسناد الجنسية التونسية لكل من يولد في تونس في ظل ارتفاع نسبة الولادات في صفوف مهاجري افريقيا جنوب الصحراء بشكل كبير ويومي"، مشيرا في حديثه إلى إذاعة جوهرة الخاصة في تونس إلى أنه "اقترح على وزير الداخلية إعداد قانون في هذا الموضوع من أجل إيجاد حل لهذه الأزمة في تونس بصفة عامة وصفاقس بصفة خاصة".
وأوضح مهدي أن "هذه المجموعات شجعت بقية الأفارقة على القدوم إلى تونس أفواجا بطريقة غير قانونية وتمركزوا بجبنيانة والعامرة باعتبارها نقطة الإنطلاق نحو أوروبا". وأضاف أن "تجميع الأفارقة في منطقة واحدة كان خيار الدولة، وهناك 17 مخيما في العامرة و12 مخيما في جبنيانة يضم آلاف الأفارقة"، لافتا إلى أن "هؤلاء خلقوا وسيلة للتأقلم والعيش في هذه المخيمات".
الاتحاد الأوروبي في مرمى الانتقادات
مع ذلك لا يبدو عماد سلطاني رئيس جمعية "الأرض للجميع" على استعداد للتخلي عن نضاله في قضايا الهجرة والدفاع عن الحق في حرية التنقل بين ضفتي البحر الابيض المتوسط ومساندة المهاجرين الوافدين والتضامن معهم.
كان عماد شاهدا منذ أكثر من عقد على فقدان المئات من العائلات التونسية لأبنائهم في رحلات البحث عم فرص أفضل للحياة في ايطاليا او إحدى دول الاتحاد الأوروبي. وقاد الكثير من الوقفات الاحتجاجية ضد سفارات دول الاتحاد الاوروبي وبعثة المفوضية الاوروبية في تونس.
ويعارض سلطاني سياسة الدولة في تعقب النشطاء والمهاجرين من افريقيا جنوب الصحراء. ولكنه في نفس الوقت يلقي باللائمة على ضغوط الاتحاد الأوروبي في صياغة مذكرة تفاهم مع تونس منذ تموز/ يوليو 2023 بهدف صد المهاجرين عن الوصول الى السواحل الأوروبية بكل الطرق.
وفي تعليقه لـDW عربية، لا يرى رئيس جمعية "الأرض للجميع" اتساقا في سياسة الدولة التي قبلت حزمة مساعدات كبيرة من شريكها الأوروبي تناهز إجمالا المليار أورو من أجل مكافحة الهجرة غير النظامية والدوس على حرية التنقل، بينما تفرض في نفس الوقت قيودا على المجتمع المدني الذي يعمل في نطاق القانون ويخضع كذلك للتدقيق المالي. ويضيف السلطاني بصرامة "الدولة تستهدف كل من يساند المهاجرين. ونحن نرفض هذه السياسة لأن العمل الإنساني ليس جريمة".
وتفيد أحدث البيانات التي صدرت عن وزارة الداخلية الإيطالية إلى تراجع التدفقات على سواحل البلاد هذا العام بنسبة تفوق 60 بالمئة مقارنة بـ2023 مشيدة في نفس الوقت بالتعاون المثمر مع خفر السواحل التونسي.
لكن منظمات حقوقية في تونس تقول: إن هذا التعاون لم يوقف تواتر حوادث الغرق المأساوية للمهاجرين في البحر، فضلا عن تقارير تفيد بانتهاكات ممنهجة ضدهم. وطالبت هذه المنظمات بإنهاء العمل بمذكرة التفاهم.
وفي زيارة لها إلى تونس في تموز/يوليو 2024 وثقت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية آنياس كالامار ما اعتبرته "انتهاكات مروعة من قبل السلطات ضد المهاجرين واللاجئين القادمين من جنوب الصحراء الكبرى، تتسم بخطاب عنصري يصدر عن أرفع مستويات الدولة، وتطبيع عمليات الترحيل الجماعي عند الحدود، وعمليات الاعتراض العنيفة في البحر، والاعتقالات المستندة إلى التصنيف العرقي".
كما انتقدت في إحاطة إعلامية إخضاع نشطاء "يمدون يد العون للمهاجرين أو يدافعون عن حقوقهم عبر عملهم في منظمات المجتمع المدني لتحقيقات تعسفية، وفي بعض الحالات، لعمليات اعتقال واحتجاز”.
لكن كالامار لم تستثن في معرض انتقاداتها الاتحاد الأوروبي وتورطه في الانتهاكات الحاصلة بسبب ما تراه مقايضة للحقوق والحريات بصفقة لتمويل عملية احتواء السلطات في تونس لتدفقات المهاجرين واللاجئين.
ويقول الناشط عماد السلطاني "لا توجد هجرة غير شرعية، توجد سياسات غير شرعية حولت البحر الأبيض المتوسط إلى أكبر مقبرة للمهاجرين".