موظف متقاعد يقود حكومة تونس..طوابير الخبز أول اختبار يواجهه
٦ أغسطس ٢٠٢٣في ليل 25 يوليو تموز عام 2021 خرج الرئيس قيس سعيّد يحتفل بين أنصاره بشارع الحبيب بورقيبة الرئيسي بعد اعلانه التدابير الاستثنائية وتجميد أعمال البرلمان في خطوة أولى قبل حله لاحقا.
كان من بين المحتفين بالقرار عمال المقاهي والمحلات والأكشاك المطلة على الشارع الذي يحتل مكانة رمزية كبيرة لدى التونسيين، على أمل أن ترفع أخيرا الحواجز الحديدية التي أحاطت بالشارع وأغلب الأنهج المتفرعة عنه منذ الإطاحة بحكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي عام 2011.
لكن بعد أكثر من عامين على قرارات الرئيس سعيّد لا تزال الحواجز في مكانها بينما لم يتخل الرئيس عن اطلالاته الاحتفالية من حين لآخر في الشارع ملوحا بقبضة يده ومتعهدا "بإعادة البناء وعدم العودة الى الوراء".
مع ذلك يأمل أنصاره بأن تكون خطوته الجديدة بعزله رئيسة الحكومة نجلاء بودن وتنصيبه للخبير القانوني المتقاعد في البنك المركزي والشخصية المجهولة للتونسيين، أحمد الحشاني، صائبة هذه المرة ومقدمة للتغيير الفعلي.
على الرغم من المعاناة اليومية في تأمين السلع الاستهلاكية المفقودة في السوق مثل القهوة والسكر، إلا أن سمير العامل في مقهى لا يزال يثق في اختيارات الرئيس سعيّد، وفي تقديره فإنه مثال لـ"نظافة اليد" في السلطة، كما يقول.
ويضيف العامل في حديثه مع DW عربية "أزمة التموين تجتاح العالم كله، الأمر ليس مقتصرا على تونس. آنا سأظل متفائلا".
لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لرضا الذي يعمل دليلا سياحيا منذ أزيد عن 35 عاما. ليس بعيدا عن المقهى ركن رضا الحافلة السياحية في الشارع الرئيسي وسط طابور من الحفلات السياحية وهو لا يخفي تذمره من الحواجز الأمنية المتعددة.
ويقول رضا لـDW عربية "صحيح أن الأرقام والتوقعات للقطاع السياحي حتى الآن جيدة ولكن يتعين ان ننتظر حتى نهاية العام من أجل التقييم. تغيير رئيس حكومة قد لا يكون له تأثير فعلي وملموس. كثيرون وصلوا الى هذا المنصب في سنوات قليلة لكنهم لم يغيروا شيئا".
بالنسبة لرضا فإن الاختبار الأول لرئيس الحكومة الجديد على المدى القريب سيكون أمام توفير مادة الخبز الحيوية للتونسيين والمتناقصة في الأسواق منذ أشهر. ويضع رضا رهانا في ذلك في حديثه مع مراسل DW عربية قائلا "إذا رأيت الطوابير قد خفت أمام المخابز عندها فقط يمكن أن أقول الأوضاع بدأت تتغير".
"خبز واحد" لكل التونسيين
توفير الخبز أصبح الهدف الأول المعلن لحكومة الرئيس سعيّد وهو بمثابة الخط الأحمر الذي يمنع تجاوزه. فتاريخيا ارتبط فقدان الرغيف او الترفيع في أسعاره، باضطرابات خطيرة حصلت في الماضي بتونس أشهرها "ثورة الخبز" في منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
وفي تلميح لتلك الأحداث، يردد الرئيس سعيّد بشكل متواتر في خطاباته بضرورة حماية "السلم الأهلي" حتى لو أدى ذلك إلى رفض اتفاق القرض مع صندوق النقد الدولي المعلق منذ أكتوبر 2022، لتفادي أي شروط تهدد نظام الدعم الذي يمكن أن يطال منتجات العجين ومن بينها الخبز.
وبهدف التوفير لمادة الدقيق في ظل نقص إمدادات الحبوب وتراجع الانتاج الوطني بنحو 60 بالمائة في 2023 مقارنة بالعام السابق تحت وطأة الجفاف، فإن الخطوة الأولى للرئيس تقوم على توفير "خبز واحد" لكل التونسيين وانهاء نظام التصنيف بين المخابز العادية والمخابز العصرية التي تستخدم الدقيق لانتاج خبز أعلى سعرا.
والهدف من هذه الخطة هو ضمان تزويد الطبقات الفقيرة ومحدودة الدخل بالخبز. ولكن هذا الإجراء قد لا يكون كافيا لوحده لتبديد المخاوف من أي اضطرابات اجتماعية محتملة.
يشير الخبير الاقتصادي رضا شكندالي لـDW عربية "هناك ازمة مالية حادة وعجزا حكوميا على تعبئة الموارد الخارجية. غير أن اتفاق تونس مع الاتحاد الأوربي بشأن التعاون في مكافحة الهجرة مقابل الدعم المالي مع اتفاق قرض ومنحة (500 مليون دولار) مع المملكة السعودية، قد يمنحان دفعة للحكومة في انتظار خطوات أخرى إلى جانب التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد".
لكن هل يبرر كل هذا خطوة الرئيس لتغيير رئيس حكومة في ذروة الأزمة المالية والاقتصادية في الوقت الذي يعود فيه إلى الرئيس وحده في تحديد توجهات وسياسات الحكومة.
بحسب نص الدستور الجديد الذي وضعه الرئيس سعيّد بنفسه في 2022 عبر استفتاء شعبي، فإنه يملك صلاحيات تنفيذية واسعة من بينها اختيار رئيس حكومة وأعضائها.
الحكومة والرئيس على طرفي نقيض؟
ووفق الخبير وأستاذ الاقتصاد في جامعة تونس رضا شكندالي فإن هناك ثلاثة مبررات على الأقل تفسر خطوة الرئيس.
يوضح الخبير لـDW عربية بأن التباين برز في ثلاث ملفات على الأقل بين حكومة نجلاء بودن والرئيس سعيّد، أولها التعاطي مع صندوق النقد الدولي، فبينما كان الرئيس سعيّد يوجه انتقاداته إلى المؤسسات المالية الدولية بما في ذلك الصندوق رافضا مسألة "الارتهان أو الخضوع إلى الاشتراطات" ومشددا على "السيادة الوطنية"، كانت الحكومة في المقابل تردد على لسان وزرائها بأن لا مفر من اتفاق قرض ومن الدخول في الإصلاحات الجوهرية للاقتصاد.
والمسألة الثانية كما يفسر الشكندالي، أن الرئيس سعيّد طرح مقاربة تتعلق بأ"الصلح الجزائي" يقضي بابرام اتفاق مع رجال الأعمال الملاحقين قضائيا في قضايا فساد بالتأسيس لمشاريع في المناطق الداخلية المهمشة من أجل التنمية وخلق فرص عمل للعاطلين.
طرحت هذه الفكرة منذ كان الرئيس سعيد خارج دائرة الحكم ومجرد متابع للأحداث في العام 2012 لكن عند عرضها في مشروع قانون وهو في منصب الرئاسة لم تجد طريقها إلى التحقيق رغم تكوينه للجنة مكلفة بالموضوع.
كما لم يجد مشروع قانون الرئيس بتكوين "شركات أهلية" القريبة شكلا من التعاضديات وذات رأس المال المشترك، من أجل التنمية في الجهات الداخلية، طريقه في برامج الحكومة ومخططاتها ولا في قانون المالية وموازنة الدولة.
والعائق الأقرب في ذلك حسب الخبير، يتعلق بسياسات وزارتي المالية والاقتصاد، والتي تقف على طرف نقيض من أفكار الرئيس سعيّد.
مع ذلك فقد طفت على السطح عدة تحفظات خلف تعيين أحمد الحشاني في منصب رئيس الحكومة، ليس من المعارضة فحسب التي وصفته "بالنكرة وفاقد الأهلية"، ولكن أيضا من الخبراء لجهة أن لا خلفية ولا سجل له في بحوث الاقتصاد والمال.
وأكثر ما هو متوفر من معلومات بشأن الحشاني لدى الرأي العام عبر الصحافة، فإنه موظف متقاعد من منصبه كمدير للشؤون القانونية ومديرا للموارد البشرية بالبنك المركزي، وهو يشترك مع الرئيس قيّس سعيد كونه من خريجي كلية الحقوق. وارتباط سجله الوظيفي بقسم الموارد القانونية والبشرية أحال في تقدير الخبراء الى مخطط لاصلاح الإدارة والوظيفة العمومية.
وقد ترافقت بالفعل حملة بموازاة التعيين حول اعتزام الرئيس اصدار قانون لمراجعة شهائد التوظيف في المؤسسات العمومية منذ عقد بهدف "تطهير الادارة".
ويقول الخبير الشكندالي لـDW عربية "نعاني من رداءة الإدارة التي باتت عائقا للنمو ومناخ الاستثمار، هي ادارة معطلة وتستحوذ على نحو 45 بالملئة من كتلة الأجور"، وهي تعد فعليا نسبة من بين الأعلى في العالم.
ويتابع الخبير في تحليله "اذا كان هذا هو التصور فهي خطوة جيدة للإصلاح ولكن علينا أن ننتظر لنرى ما سيقوله وما سيفعله رئيس الحكومة الجديد".
"التغيير" هل يتحقق فعلا؟
بالعودة إلى الشارع لا يعكس التغيير في منصب حساس برئاسة الحكومة لدى المواطنين، ذات الزخم الذي كان يحظى به قبل سنوات، وهو أمر قد يعود إلى تغير نظام الحكم إلى نظام رئاسي يمثل فيه الرئيس السلطة التنفيذية الأعلى والمهيمنة بشكل واضح على باقي المؤسسات في المثال التونسي.
ومثل الكثيرين من العاملين باليومية ومن الباعة المتجولين في شوارع العاصمة، تقضي مريم ساعات النهار لبيع عصير "الأناناس" المبرد والمعد تقليديا كما تضع خيارا آخر بتقطيع شرائح من هذه الفاكهة.
تغض شرطة البلدية الطرف عن الباعة وتجار القطاع الموازي غير المنظم كونهم لا يملكون رخصا، لكنها لا تتوانى في تحريك حملات ضدهم من حين لآخر، لذلك فإن الوقت هو أثمن ما تملكه مريم لبيع أقصى ما يمكن من عصير الأناناس وتأمين احتياجاتها اليومية من المال. وتقول لـDW عربية "نحن الطبقة الكادحة نحتاج الى التخطيط اليومي لمجابهة الغلاء. نعمل فقط من أجل تأمين العيش لا نملك هامشا أكبر".
وفي حين تبدو الأوضاع السياسية في البلاد في ذيل اهتمامات مريم فإنها لا ترفع سقف تطلعاتها من تنصيب الحشاني، ومع ذلك فهي تصف خطوة الرئيس بـ"الإيجابية". وتضيف من دون تردد "في النهاية التغيير في حد ذاته جيد".
وعلى الصعيد السياسي والنقابي تراوحت ردود الفعل بين الحذر ودهم التفاؤل، فقد حثّ الأمين للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي السبت رئيس الحكومة الجديد أحمد الحشاني على "الانفتاح على مختلف المكونات" في البلاد.
خلال تجمع في مدينة صفاقس (وسط شرق)، علق الطبوبي على إقالة الرئيس قيس سعيّد رئيسة الحكومة نجلاء بودن قائلا "العبرة لا تكمن في تغيير الأشخاص وإنما تكمن في تغيير الإستراتيجيات والسياسات".
ومن جهته قال أحمد نجيب الشابي زعيم "جبهة الخلاص الوطني" المعارضة في تونس، في مؤتمر صحفي للجبهة إن الرئيس سعيّد اختار "شخصا نكرة لا أحد يعرفه في تونس، وهو لا يملك رؤية ولا برنامج، ولا يملك مقدرة سياسية وسيرته لا تبعث على التفاؤل".
وبالنسبة للخبير الاقتصادي عز الدين الدين سعيدان قد يكون التغيير أفضل السبل لتخفيف الضغط ولكن هذه ليست سياسة فعالة أمام تحديات اقتصادية معقدة وفشل حكومي مستمر منذ 2011.
ويضيف سعيدان لـDW عربيىة "منذ سنوات والدولة تتبع سياسة "رجال الإطفاء" في التعامل مع المشاكل الاقتصادية عبر الإقتراض لتمويل حاجيات البلاد.هل بهذه الطريقة سنحل مشاكل اقتصادية معقدة جدا؟".
طارق القيزاني - تونس