شوارع تونس تخلو من الباعة المتجولين... هل من مصدر رزق بديل؟
٣ أكتوبر ٢٠٢٣قبل يومين فقط من احتفالات المولد النبوي الشريف في تونس بدت ساحة "باب البحر"، التي تضج عادة بحركة السياح وجلبة الباعة المتجولين، وكأنها خاوية على عروشها عدى بعض المارة القاصدين بيوتهم بأزقة المدينة العتيقة المجاورة أو المحلات التجارية بداخلها.
وفي مدخل الساحة حيث تنتصب بناية القوس التاريخي لباب المدينة ترابط سيارة للشرطة ومن حولها قوات الأمن ومن أمامهم يمتد سياج حديدي يفرض المزيد من القيود الأمنية على حركة السير.
لا شيء يدل على الاحتفالات الموسمية هذا العام مع غياب كامل لعربات باعة الفواكه المجففة والمكسرات والحلويات التي يقبل عليها التونسيين بكثرة في مثل هذه المناسبات. والسبب في ذلك قرار السلطات بمنع التجارة الموازية والعشوائية في الشوارع.
جاء القرار بدفع من الرئيس قيس سعيد نفسه الذي ظهر قبل ذلك بأيام في الشوارع، وأعقب ظهوره حملة أمنية واسعة وسط العاصمة أنهت سنوات من الفوضى والزحام، ولكنها في نفس الوقت دفعت الكثير من العاطلين والتجار المستقلين والعائلات المعوزة إلى المجهول.
يمثل هذا النشاط التجاري غير المنظم مصدر رزق رئيسي لمئات الآلاف من العائلات في تونس. وبشكل عام يقدر الاقتصاد الموازي غير الخاضع للضرائب بنحو نصف الاقتصاد الوطني، وهي معضلة كبرى تعاني منها الدولة وتجد صعوبة بالغة في تسوية وضعها وإدماجها في النشاط العام المنظم.
ووفق تقديرات دولية يوفر الاقتصاد الموازي فرص عمل لقرابة 75 بالمئة من الشباب في تونس الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة.
شباب وعائلات في مهب الريح
ومن بين هؤلاء الشاب طلال الثامري الذي لا يخفي قلقه المستمر بشأن مستقبله. فقبل أشهر كان يقود في نفس المكان عربته لبيع العطور ويعتمد على دخله منها لسد مصاريفه اليومية ومستلزماته في مركز التدريب بأحد ثكنات الجيش حيث يقوم بالتدريب المهني على حرفة السباكة.
يروي طلال البالغ من العمر 17 عام بأسف لـDW عربية: "جاءت الشرطة وكسرت كل القوارير واتلفت العطورات. لم أعد أملك عربة ولا عطور ولا رأسمال. أنا الآن مفلس".
تلقى طلال ضربة مضاعفة لأنه عندما حاول تأمين دخلاً بديلاً معتمداً هذه المرة على دراجته النارية كوسيلة نقل بالأجرة، صادرت أيضاً الشرطة الدراجة بدعوى أنه لا يملك تأميناً وازداد بذلك وضعه تعقيداً.
طال قرار السلطات كذلك والده محمد الثامري الذي يعمل باليومية في ساحة "باب البحر"، وأصبحت والدته التي تعمل في مطعم يطل على الساحة نفسها هي من تتحمل نفقات العائلة المكونة من أربعة أفراد.
ويقول والد طلال لـDW عربية: "لقد انتخبت الرئيس قيس سعيد. نحن مع الإصلاحات وتطبيق القوانين ولكن نحن من ذوي الدخل المحدود. ويجب علينا تأمين الاحتياجات اليومية. كان على الرئيس أن يقدم الحلول البديلة للباعة المتجولين؛ إذ يترتب عليهم التزامات ولديهم أبناء".
ويعتبر تاجر الاكسسوارات المتجول محمد الطرابلسي نفسه أحد ضحايا قرار وزارة الداخلية. وأبرز لمراسل DW عربية شهادة ميلاد رضيعه البالغ من العمر 12 يوماً فقط، وهو يقف اليوم عاجزاً عن توفير احتياجاته من حفاظات وحليب البودرة. ويقول محمد، الذي رفض أن يظهر في الصورة، بتوتر إنه يواجه مأزق حقيقي ولا يعرف كيف سينتهي به الوضع، ويروي بأنه يضطر إلى البقاء هائماً في الشوارع طوال اليوم عسى أن يتدبر أمره، وأنه لا يطيق العودة إلى بيته بأيدي فارغة.
خسائر ضريبية بالمليارات
مع أن وزارة الداخلية عرضت تخصيص مكان بديل للباعة، إلا أنه يبعد عن وسط المدينة ويخشى الباعة من الكساد في حال ابتعدوا عن ساحة "باب البحر".
ويوضح رمضان بن عمر العضو في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لـDW عربية أن "الآلاف من صغار التجار القادمين من الولايات الداخلية الفقيرة يعملون من أجل تحصيل ما يكفيهم لمعيشتهم اليومية وسد باقي المصاريف، وبسبب ذلك تمثل عملية الانتقال إلى فضاء جديد فاقد للديناميكية مخاطرة حقيقية بدخلهم اليومي".
ويقول بن عمر إن التجار يحاولون دائماً التوصل إلى "اتفاق مبطن" مع السلطات الأمنية، مثل الانسحاب المؤقت من الشوارع ومن ثم العودة بعد فترة هدنة وهو ما يحدث بشكل متواتر منذ سنوات. لذا لا يتوقع بن رمضان أن يصمد قرار السلطات طويلاً.
مع ذلك قال والد طلال إن الفضاء الجديد الذي اقترحته السلطات على الباعة يتسع لنحو 500 نقطة بيع فقط بينما يبلغ عدد من تقدموا بمطالب للحصول على رخصة أكثر من أربعة آلاف شخص.
ويهدد الوضع ذاته مئات الآلاف من الباعة الموسمين في باقي الولايات الداخلية، ولا سيما المناطق المتاخمة للحدود الليبية والجزائرية والتي تعتمد في غالبيتها على التجارة الموازية وأنشطة التهريب.
وفق دراسة أعدها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية فإن حجم خسائر الدولة من عائدات الضرائب جراء الاقتصاد الموازي يصل لنحو 5 مليار ونصف المليار دينار (1.7 مليار دولار أمريكي)، بينما يقدم هذا الاقتصاد فرص عمل لحوالي 1.6 مليون شخص في البلاد اي ما نسبته 44.8 بالمئة من اجمالي السكان النشيطين.
حلول غير ناجعة لظاهرة معقدة
ويقول رمضان بن عمر العضو في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إن وزارة الداخلية فضلت الذهاب إلى الحل السريع والأقصى بمنع النشاط التجاري في الشوارع بين عشية وضحاها دون استراتيجية مسبقة. ويرى العضو في منتدى الحقوق الاقتصادية بأن الاقتصاد الموزاي ظاهرة متفشية في العالم ولا مفر من التعايش معها، غير أن التجار المستقلين والباعة في الشوارع يمثلون الحلقة الأضعف وهم من يتحملون بشكل أكبر تبعات أي قرار من السلطات بينما تظل الشبكات الكبرى تنشط في الخفاء وبمعزل عن أي تبعات.
ويرى الخبير الاقتصادي بسام النيفر بأن الحلول الأمنية والضريبية ليست كفيلة لوحدها بمعالجة ظاهرة الاقتصاد الموازي في حال لم تكن هناك خطة وطنية تأخذ بعين الاعتبار الجانب الاجتماعي والتنموي لكل منطقة. وبدل ذلك يقترح الخبير منح تجار القطاع الموازي فرصة للانضمام إلى القطاع المنظم وبتسوية وضعيتهم الضريبية.
لكن الخطة نفسها لا تخلو من تعقيدات وتضارب. ويقول العامل باليومية محمد الثامري لـDW عربية: "نحن نعمل مع كبار التجار من دون أي ضمانات. وهم من يتحايلون على الدولة ونحن من ندفع الكلفة الباهظة في النهاية".
تونس – طارق القيزاني